ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (65) ما هو الفهم الصحيح للقناعة؟

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “القناعة مال لا ينفد”

ابن ادم تشبعه الاكلة، وتستره البُردة، وتأويه الغرفة، ولكنه لا يقنع، بل يبحث عن المزيد، قد يشبع البطن في الانسان، ويرتوي جسمه، ولكن تبقى نفسه جائعة الى المزيد، وكما يقول البعض: فإن الجسم يشبع ولكن العين لا تشبع.

إن قدرة الجسم على استيعاب الاكل والشرب محدودة، فلو أن إنسانا جلس على سفرة فيها أطنان من الطعام فهو لا يستطيع ان يأكل إلا بحجم معدته، ولو امتلك الانسان عشرات القصور فإنه لا ينام إلا على فراش واحد.

قدرة الجسم في استيعاب الأمور محدودة، فيجمع ما يتركه بعده، في قبال الجسم هناك الروح التي لها غير محدودة؛ فمقدار العلم الذي يستوعبه الانسان بلا حدود.

ولذا الكثير ينشغل بأشياء يتركها و يهمل أشياء يُسأل عنها ويحتاج إليها، والانسان الذي حاجته محدودة يموت وهو جائع ويسيطر عليه النَهَم، فالذي لم يشبع ليس جسمه، بل نفسه، أما القانع بما عنده فهو ينشغل بتربية روحه، يعيش حالة من الاطمئنان، ويتمتع بالحياة، فحين يأكل قرصا من الخبز يأكله بنَهَم ويحمد الله على ذلك ويشبع.

أما الطماع فهو لا يشبع بأفضل الاكلات ولا يتمتع بها لان عينه مسمّرة الى خارجها، وفي التاريخ قصص وحكايات عن أناس كثيرين امتلكوا وسائل التمتع في الحياة لكنهم عاشوا في طمع وذُل.

قيمة المال أنه يأمن حاجة الانسان، والقناعة أعم من المال في تأمين الحاجة، لان المال ينفد بينما القناعة تبقى

البخيل لا يصرف مال لأنه طماع ولا يمتلك القناعة، ولذلك فهو يبحث عن المزيد ولا يتمتع بما عنده، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “عجبت للبخيل استعجل الفقر الذي منه هرب”، هيتي غرين امرأة امريكية شديدة الثراء، لكنها الأكثر بخلاً على الإطلاق، لم تنفق أي قرش أبدا، وتسببت في بتر ساق ابنها لأنها ظلت تبحث عن عناية طبية مجانية، توفيت هيتي غرين في سن الـ81 في مدينة نيويورك، ودخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية العالمية بلقب «أبخل شخصية في العالم»،  و توفيت من سكتة عندما تشاجرت مع خادمة اختلفت معها في فضائل الحليب منزوع الدسم.

قيمة المال أنه يأمن حاجة الانسان، والقناعة أعم من المال في تأمين الحاجة، لان المال ينفد بينما القناعة تبقى، فقيمة المال انه يرفع الحاجة إلا انه يُصرف، والقناعة لا تصرف ولذلك لا تنفد، قال الشاعر:

هي القناعة فلزمها تعش ملكا

لو لم يكن منها إلا راحة البدنِ

وانظر الى من ملك الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير القطن والكفنِ

العين لا تشبع، فالبعض يقول: (إذا ملكت مليونا سأرتاح)! لكن إذا ملكها سيبحث عن المليون الثاني، وهكذا..، فلم يُرَ تاجر وقف عند حد معين من الربح، “منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال” لكن طالب العلم يرتفع وطالب المال يهبط!

قال أبو جعفر الامام الباقر، عليه السلام: “إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه، صلى الله عليه وآله: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} ” وقال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} فإن دخلك من ذلك شيء فاذكر عيش رسول الله، صلى الله عليه وآله، فإنما كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجده”.

في مقابل القناعة يكون الطمع وليس عدم العمل، فليس المطلوب ان لا تعمل وان يعطّل الانسان وجوده وطاقاته، وبمقدار ما يستطيع ان يكسب من الحلال فإن عليه السعي الى ذلك، أما الطمع فهو مذموم في قبال القناعة وهو ان يطلب جهود الآخرين دون ان يبذل جهدا، أو ان يحسب الانسان حساب المال والدنيا دائما دون ان ينمي نفسه، وان يكون للآخرة حيزا عنده.

وفي حادثة تاريخية تربوية تبيّن كيف أن الإنسان إذا استغنى عن الآخرين فإن الله تعالى يفتح له أبواب الرزق؛ عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: اشتدت حال رجل من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله، فقالت له امرأته، لو أتيت رسول الله فسألته، فجاء إلى النبي فلما رآه النبي، صلى الله عليه وآله، قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، فقال الرجل: ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها.

 فقالت: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله،  بشر فأعلمه فأتاه فلما رآه رسول الله قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل، فصعده فقطع حطبا، ثم جاء به فباعه بنصف مُد من دقيق فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولا، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله.

القناعة تُذكي جوهر الانسان، فالإنسان القنوع حينما لا يحتاج الى الاخرين يكون قويا في شخصيته

فكم من الناس أذلهم الطمع فباعوا انسانيتهم وكرامتهم، ودِينهم، لذا حين لا يحصل المؤمن على المال من الطريق الحلال عليه القناعة، فالإنسان لا يموت جوعا إذا عاش قنوعا، فبكد يمنيه وعرق جبينه يستطيع ان يجمع قوتَ يومه.

حينما نقول: “القناعة مال لا ينفد” ليس دعوة الى ترك الدنيا لأهل الدنيا وللشركات الصهيونية واليهودية، وإنما على الانسان ان لا يبيع عزته وكرامته للمال.

القناعة تُذكي جوهر الانسان، فالإنسان القنوع حينما لا يحتاج الى الاخرين يكون قويا في شخصيته، والقناعة لا تعني ترك العمل وبذل الجهد، بل القناعة حالة نفسية وهي عدم النظر الى ما عند الآخرين، وبمقدار ما يحصل الانسان من السعي عليه القناعة به.

___________

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا