في العراق جروح عميقة لمّا تندمل، و آهات مكبوتة يغطيها ركام الزمان والتحولات المستمرة للحياة، فالمصيبة الجديدة تغطي على ما سواها مع مرور الزمن، ربما هي سنّة الحياة، لكنّ الأمر يختلف عندما يتعلق بشهداء العقيدة في عهد النظام الصدامي- البعثي، فقد واجه حزب البعث رفضاً جماهيرياً وعلمائياً منذ السنوات الأولى لاستيلائه على السلطة، وكانت الشرارة الأولى لهذا الصدام؛ اعتقال آية الله السيد حسن الشيرازي عام 1970 بتهمة الإعداد لانقلاب عسكري فاشل بالاتفاق مع ضباط في الجيش، ثم توالت الاعتقالات في صفوف أبناء الحركة الإسلامية من علماء وخطباء ومثقفين وأكاديميين.
وللأمانة التاريخية فان أول سوط او صفعة على وجه أول معتقل في سجون البعث العراقي له إسهام في عملية التغيير الكبرى عام 2003 بدليل الإقرار الأميركي في نهاية المطاف بأن “صدام كان يقمع شعبه”، وقد تحدث الينا بول بريمر عبر الشاشة التلفزيون العراقي الجديد، ضمن احاديثه اليومية كرئيس للحكومة المؤقتة، بأني “زرت غرف التعذيب”، كرسالة تسكين للخواطر وأنه يعلم كل شيء.
لذا عندما نسمع بإلقاء القبض على نفر من مدراء السجون ومنفذي جرائم الإبادة للمعارضين، تقفز الى اذهاننا ذلك العالِم، والخطيب، والأديب، والطلبة الجامعيين، وخيرة الشباب العراقي ممن تربوا على آداب وأخلاق وتعاليم أصلها ثابت وفرعها في السماء، ضحوا بأرواحهم وفاءً للقيم التي تربوا عليها.
ثمة شعور لدى الناس بالخوف من الحقائق المدفونة مع آلاف الجثامين في المقابر الجماعية، ومحاولة إظهار ما لا يؤثر على الواقع السياسي القائم، كما حصل مع محاكمة صدام التي كانت مدبّرة بالكامل بالتنسيق بين جهات داخلية وأخرى خارجية
وبلغت المواجهة بين التديّن والتحلّل أوجها في ظهور المرجع الديني الشاب –حينها- الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي رفع لواء الحركة والعمل لإحياء قيم الدين وأحكام الإسلام ونظامه وهو ما عدّه البعثيون، وتحديداً؛ صدام، إعلان حرب وتزاحم على الحكم، فحصل ما حصل بما لا أجد الحاجة للخوض فيه كثيراً في هذا الحيّز المحدود لتسليط الضوء على ملابسات اعتقال هؤلاء النفر، وطريقة التعاطي مع قضية غاية في الأهمية والحساسية رغم تقادم الزمان عليها، وربما تكون فرصة أخرى للحديث عما جرى من أحداث جرت قبل خمسين عاماً تمثل أساساً وقاعدة للواقع الذي نعيشه اليوم في العراق.
ثمة استفهامات عديدة تحوم حول هذه القضية، وربما أسئلة تدور في أذهان كثير من الناس نذكر منها:
- شخصنة قضية إعدام المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر، والتركيز الواضح على اسمه فقط، والإعلان في وسائل الاعلام مع تعضيد وسائل التواصل الاجتماعي بأنه “تم اعتقال المسؤول عن إعدام الشهيد الصدر….”، كما لو أن نظام حزب البعث، وشخص صدام لم يكن أمامه عدواً او معارضاً سوى المرجع الصدر في مدينة النجف الأشرف، وهو ما يلقّن المخاطب بشكل غير مباشر بأن صدامَ ضمن السلطة والحكم بإعدامه المرجع الصدر، ومن ثمّ؛ فإن المرجع الصدر كان يفكر بأن يكون هو الزعيم والحاكم في العراق فلم يسمح له صدام بذلك!
- إخفاء نبأ اعتقال هذه الزمة لأشهر عديدة، وحسب المعلومات المنتشرة فان الأجهزة الأمنية اعتقلت هؤلاء منذ منتصف العام الماضي في إحدى مناطق كردستان العراق، مع حديث عن دور إحدى الفصائل المسلحة في نجاح عملية الاعتقال، وتزامنها مع قضيتين ساخنتين في الساحة: الانتخابات البرلمانية، والمطلب الأميركي بحل الفصائل المسلحة في العراق، مما يجعل الرسالة واضحة بفوائد هذه الفصائل على الصعيد الأمني وجدارتها في الاستمرار بالحياة السياسية.
- التزامن غير المريح مع إقرار قانون العفو العام المثير للجدل، وإعطاء الأمل لعشرات المجرمين والإرهابيين بشمّ نسيم الحرية مع ذوي ضحاياهم، ثم يخرج الينا رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني بتغريدة بأن “لن يفلت الجناة من العقاب”، كرسالة ضمنية الى الشعب العراقي بأن من يتم إطلاق سراحهم ليسوا ممن تلطخت أياديهم بدماء العراقيين.
العراقيون المتابعون لهذه التطورات الغريبة والمفاجئة ما يزالون على نفس حالة “اللاأدرية”، إن جاز التعبير، منذ خمسين سنة وحتى اليوم –الى حد ما- لعدم استشعارهم بدورهم المباشر والحاسم في صنع الاحداث المصيرية، بحاجة اليوم الى شفافية ومصداقية عالية بحجم الحدث والقضية، لا أن يسمعوا أحاديث مرتبكة من اشخاص افضل ما وصفهم أحد الكتاب بأنهم “مومياءات” تاريخية مجهولة لدى أبناء الجيل الجديد.
على الأقل كان يفترض إرفاق صورهم وهم في زمن المسؤولية لمزيد من المصداقية، وإيجاد محاور محترف ذو معرفة تاريخية، وإمكانية استنطاق اشخاص مثل هؤلاء للتعرف على كيفية تعاملهم مع المعارضين، ومن هي أكثر الشرائح معارضة في المجتمع طيلة السنوات الماضية، وغيرها كثير من الحقائق التي يبحث عنها أبناء الجيل الجديد، بل وحتى الجيل الذي سبقه من أبناء السبعينيات الذي شهدوا الاحداث صغاراً، وقد فقدوا آبائهم وإخوانهم واخواتهم ولم يتعرفوا على مصيرهم حتى اليوم.
على الأقل كان يفترض إرفاق صورهم وهم في زمن المسؤولية لمزيد من المصداقية، وإيجاد محاور محترف ذو معرفة تاريخية، وإمكانية استنطاق اشخاص مثل هؤلاء للتعرف على كيفية تعاملهم مع المعارضين، ومن هي أكثر الشرائح معارضة في المجتمع طيلة السنوات الماضية
ثمة شعور لدى الناس بالخوف من الحقائق المدفونة مع آلاف الجثامين في المقابر الجماعية، ومحاولة إظهار ما لا يؤثر على الواقع السياسي القائم، كما حصل مع محاكمة صدام التي كانت مدبّرة بالكامل بالتنسيق بين جهات داخلية وأخرى خارجية، وإلا كان يفترض بمن يُسمون “مسؤولين” عن قيادة الدولة العراقية الجديدة استنطاق صدام عن كثير من جرائمه بحق الشعب العراقي، لاسيما شن الحرب على ايران، وقبلها قمع المعارضة وتهجير العوائل العراقية وحجز آلاف الشباب من أبنائهم وتغييب مصيرهم نهائياً، على الأقل ليعرف الجميع أن المعارضين في تلك الفترة الحاسمة ضحوا بأرواحهم ليس لانتزاع المناصب والامتيازات والأموال من حزب البعث والمقربين من صدام، وإنما لأهداف سامية وعظيمة لا نرى لها أثراً كبيراً اليوم مع الأسف.