الحياة مجموعة تقلبات وعقبات، بيد أنَّ الناس ينقسمون تجاه التقلبات إلى أقسام، فمنهم من ينهار ويرى أن ذلك خاتمة الطريق بالنسبة اليه، ومنهم من يرى أن هذا هو الحد الذي يجب التوقف عنده.
بيد أن القسم الثالث من الناس هم الذين يرون العقبات والتقلبات فرصاً، وينطلق في ذلك من أن الله تبارك وتعالى هو المدبر للكون، وأّنه قد جعل مع العسر يسرين، ويجد أن هذه الفرصة بالنسبة إليه منطلقاً جديداً للحياة.
الإمام موسى بن جعفر والانطلاقة الجديدة
ربنا سبحانه وتعالى قد يبتلي الإنسان بعقبات في الحياة تبدوا وكأنّها نهاية المطاف بالنسبة إليه، فلو أنَّ أحدنا تحوّل من حر طليق إلى سجين بين أربعة جدران ربما لا يرى في ذلك أي نافذة للأمل، بينما أولياء الله على العكس تماماً، فهم يرون أنَّ هذه العقبة هي الأخرى فرصة إلهية، وهذا ما نقرأه في سيرة إمامنا موسى بن جعفر، عليه السلام، فحين اُلقي في سجن البصرة سمعه السجان يقول في دعائه وهو ساجد: “اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَسْأَلُكَ أَنْ تُفَرِّغَنِي لِعِبَادَتِكَ اللَّهُمَّ وَ قَدْ فَعَلْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ”.
وليس هذا فحسب بل الأمر أبعد من ذلك، فإنَّ ابتعاد الإمام عن شيعته وانفصاله عنهم، كان يشكّل فرصة لهم في التعامل مع الواقع الجديد، وهذا ما حدث بالفعل.
فلو تأملنا في سيرة إمامنا، عليه السلام، أن السبب الرئيس لسجنه كان قطعه عن أداء دوره الرسالي وصلته بالمؤمنين من أتباعه، فمما يروى أنه جاء أحدهم بإغراء من السلطات إلى هارون فقال له: السلام عليك يا هارون.
قال لماذا لم تسميني بإمرة المسلمين؟
قال: سبحان الله خليفتان لله في الأرض وتجبى إليهم الأموال؟
فأمر هارون بأن يعتقل الإمام وأن يؤتى به إليه وحين أدخل على هارون فقال له: ما هذه الدار؟ فقال الامام: “هذه دار الفاسقين قال الله تعالى: {سَاصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
فقال هارون: فدار من هي؟ قال: “هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة” قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال: “اخذت منهم عامرة ولا يأخذها الا معمورة”.
قال فأين شيعتك؟ فقرأ ابو الحسن عليه السلام: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} فغضب عند ذلك وغلظ عليه.
الشيعة والتغلغل في السلطة العباسية
بالرغم من التشديد الكبير الذي مورس بحق الإمام الكاظم، عليه السلام، في السجون التي تنقل بينها وآخرها سجن السندي بن شاهك، إلّا أن صلة الإمام لم تنقطع عن شيعته، بل بقيت هذه الصلة موجودة حتى قبل شهادته بثلاثة أيام حين التقى به علي بن سويد، وأما في الفترات التي سبقت فنجد المكاتبات الكثيرة بين الإمام وبين شيعته التي كانت تصل إليهم مع كون الإمام في السجن.
درس كبير من حياة الإمام، عليه السلام، بأنَّ العقبات في الحياة مهما كانت صعبة فإنّها تفتح لك آفاق وفرص جديدة للانطلاق في المشروع الرسالي والقيام بالواجبات الإلهية
فقد استطاع شيعة الإمام الوصول إلى مناحي السلطة المختلفة والتغلغل فيها حيث يستطيع أحدهم الوصول إلى طامورة الإمام في بغداد وهي الأشد حراسة ورقابة، وبالرغم من أن أسماء كثيرة بقيت خفيّة إلا أن ما لا شك فيه أن عددا كبيرا منهم استطاع الوصول إلى مناصب مهمّة في السلطة العباسية واستمر هذا الأمر حتى زمان الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
نحن والإمام الحجة عجل الله فرجه
وهذا درس كبير من حياة الإمام، عليه السلام، بأنَّ العقبات في الحياة مهما كانت صعبة فإنّها تفتح لك آفاق وفرص جديدة للانطلاق في المشروع الرسالي والقيام بالواجبات الإلهية.
فنحن إذ نعيش في زمن غيبة إمام زماننا ونرى انتشار الظلم وسيطرة المتكبرين والمترفين، وننتظر أيامه التي يقيم فيها دولة العدل والقسط، فهذا لا يعني التقاعس عن أداء مسؤولياتنا، بل على المؤمن الرسالي أن يؤدي مسؤولياته وهو ينتظر إمامه سواء تلك التي ترتبط بإصلاح ونفسه أو مجتمعه وبلاده.