ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (64) شخصية المال ام شخصية الانسان؟

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة”.

هل المال جيد أم سيء؟

هل الغنى افضل ام الفقر؟

ما هو الموقف الصحيح من المال وجمعه والعمل في سبيل كسبه؟

الرؤية الصحيحة للمال ليس أن نراه سيئا فنتبرأ منه، وليس في أن نرى المال مادة الخيرات كلها، فنعدّه هدفا نحاول الوصول اليه بأي طريق.

إنما المال وسيلة وشأن هذه الوسيلة كأي وسيلة اخرى، إن استُعملت الوسيلة في سبيل الخير كانت خيرا، وإن كانت في سبيل الشر كانت شرا، فالانسان حين يمتلك شمعة فيقرأ بضوئها الكتاب الجيد، فإذا بالشمعة هذه تكون خيّرة، في المقابل قد يستخدم اللص شمعة في يده لكي يسرق أموال الناس، وهنا تكون الشمعة شريرة، فالشمعة في كلا الحالتين وسيلة رؤية، فلا طعام ولا رائحة لها.

فنحن نولد وكلنا حاجة، وعلمنا خلال أربع وعشرين ساعة أن نسدَّ نقص الحاجات؛ حاجةً الى الطعام فنأكل، وللماء فنشربه، وللراحة فننام، وحاجة الى المال فنعمل وهكذا في بقية مختلف الحاجات، فحياة الانسان على هذه الارض حياة الحاجة والفقر بهذا المعنى.

فمحاولة الحصول الى الوسائل عبادة، فمن يسعى في سبيل بناء بيت يقي عائلته الحر والبرد، فهو يجاهد في سبيل الله، ومن يسعى في سبيل قوت يومه فهو في سبيل الله، فالبيت والقوت وسيلة، والدفاع عن هذه الوسائل مقدّس في نظر الإسلام، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “من قتل دون عياله فهو شهيد”، وروي في حديث “أن من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد”، كما أن من قتل في سبيل دِينه فهو شهيد، فما دام ان الله خلقنا هكذا فمن حق كل انسان ان يمتلك الوسائل التي يحتاج اليه، ومن واجبه ان يسعى للحصول على تلك الوسائل.

لا يوجد أحد يعصي الله ليصبح فقيرا، لكن الذين يعصون الله ليكونوا اغنياء هم الكثير من الاغنياء، وهذا هو المذموم في الآيات والروايات

المال خادم للإنسان فإذا صار خادما للمال يصبح ـ المال ـ سيئا، فنوعية علاقة الانسان بالمال تصبح سيئة، وكلمة الفصل فيما يرتبط بالمال يرجع الى الهدف منه، واستخدام المال في أي شيء؟

المال مادة الحياة؛ فلا يكتسي الانسان ثوبا، ولا يسافر ولا يعمل شيئا، وبدون المال يصبح وجودا معطلا، والله تعالى لم يخلق الانسان كذلك، فبالمال يكسب الوقت والعمر، فمن يمتلك سيارة مثلا يلخص عمره، إنه يختزن ويختزل من عمره الكثير، أما إذا لم يمتلك سيارة ــ وعنده مال ــ فلابد ان يمشي ويقطع المسافات وذلك يصرف من عمره، فيكون قد خسر عمره وليس المال! والعمر لا يعوّض.

الأخلاق المعيار

البعض ممن يمتلك المال تكون شخصية المال أكبر من شخصيته، فيضيع خلف المال، وهناك من تكون شخصيته فوق المال فإذا امتلكه لا يضيّع نفسه، ولا يغيّر اصدقاءه لان جيبه تغيّر، ولا يترك اقرباءه لغناه، ولا ينسى التزاماته، وإنسانيته.

القضية المذمومة في الآيات والروايات حول الغنى هي اخلاق الأغنياء، لا الغنى بحد ذاته، كما ان المذموم من الفقر أخلاق الفقراء، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، فالغنى ليس عيبا، بل الطيغان الذي قد يكون مع الغنى هو الذي يحذّر منه القرآن الكريم، لكن إذا لم يطغَ فالمال نعم العون على الدِين.

وكلام النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وكلام أهل بيته، عليهم السلام، متوجه في الخطاب الى الغني؛ بأن الغنى ليس فخرا فالمال ليس له قيمة ذاتيه، وأمران لا يطمئن إليهما الانسان الصحة والغنى، فالمرض قد يهجم على الانسان في اي لحظة، ميكروب واحد يقعده الفراش، “مسكين ابن ادم تؤذيه البقة”، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، وبالنسبة للغنى قد يخسر أحدهم اسهمه كاملة في سوق العمل فيخسر كل شيء.

رؤية الدِين تجاه المال

المنهج الرباني يقول للإنسان: لا تضيع شخصيتك أمام المال، ولا تأمره بترك المال وان يرمي بأمواله في البحر، فهذا حرام في الشرع المقدس، فلو رأيت إنسانا غنيا أحرق ماله ــ مثلا ــ فالحكم الشرعي يأمر بحجر(منع) امواله عنه، {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ}، والسفيه هو الذي لا يدير المال بالشكل المطلوب.

الفقر الممدوح في الروايات ناظر الى ان الفقير يكون متواضعا، فأخلاق الفقراء الحميدة هي التي تُمدح في الروايات، وأخلاق الاغنياء القبيحة هي التي تُذم في الروايات، وما بينهما هو الذي جمع بين الاثنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

الفقر مذموم؛ ولا يجوز لإنسان ان لا يبحث عن المال ويبرر ذلك بأن الفقر مطلوب، فهذا عجز وهو آفة، “العجز آفة” يقول أمير المؤمنين، فالله تعالى يريد أُناسا يعملون

الغنى ممدوح؛ لكن البعض لكي يكون غنيا فهو مستعد ان يطرق كل باب، فقد يرتكب المعاصي، ويترك مسؤوليته، ولا يقوم بواجبه لاجل الحصول على المال، فيبحث عن المنصب، وهذا النوع ليس لديه مشكلة أن يبيع شخصيته، وكرامته من اجل المنصب، لذلك أن يبقى الانسان فقيرا خيرا له أن يفقد شخصته من اجل المال!

يقول احد الحكماء: حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى احدا يعصي الله ليفتقر، ولكن في المقابل يوجد كثيرون يعصون الله لاجل الغنى، يقول الشاعر:

يا عاتب الفقر ألا تزدجر

عيب الغنى أكبر لو تعتبر

إنك تعصي الله تبغي الغنى

ولا تعصي الله كي تفتقر

فلا يوجد أحد يعصي الله ليصبح فقيرا، لكن الذين يعصون الله ليكونوا اغنياء هم الكثير من الاغنياء، وهذا هو المذموم في الآيات والروايات.

هل الفقر عيب؟

الفقر بما هو فقر عيب؛ ذكر رجل عند الإمام الصادق (عليه السلام) – لما الأغنياء ووقع فيهم(سبّهم)، فقال الإمام: اسكت فإن الغني إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه، أضعف الله له الأجر ضعفين، لأن الله يقول: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.

فالقرآن الكريم يذم أن يكون الاولاد والاموال هدف، فهما لا يقربان الى الله، لكن إذا آمن الانسان، فالله يعطيه الجزاء ضعفين.

ولذا فإن الغنى الحقيقي هو غنى النفس سواء كان مع المال ام بدونه، لذلك تجد بعض الاغنياء يصوّب عينه تجاه اموال الآخرين، وبعضهم نفسيته كالمستعطي المضطر، فالاغنياء الذين يحتكرون الاموال ويبيعون ويربحون كثيرا هؤلاء في أنفسهم أفقر من الفقير، لان الفقير أساسا لا ينظر الى اموال الغني، بينما تجد بعض الاغنياء يلاحق الفقراء فيما يمتلكونه.

 وأكبر الفقر هو فقر النفس؛ أن تكون النفسية هابطة وفقيرة، حتى لو كان صاحبها غنيا، وفي ذم الفقر قال امير المؤمنين، عليه السلام: “يا بني إني أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه فإن الفقر منقصة للدِين مدهشة للعقل داعية للمقت”، وقال عليه السلام: “القبر خير من الفقر”، وقال: “العُسر يُفسد الأخلاق”. “وليست الغربة عار إنما العار في الوطن الافتقار”.

الفقر مذموم، واخلاق الغني مذمومة لا الغنى نفسه، فما يرافق المال هو المذموم، فللمال آفة، فلكل شيء آفة، فحين تشتري ــ مثلا ــ سيارة لابد وان توفر كراج، والبنزين، والصيانة وما اشبه، فمعَ كل نعمة في هذه الحياة نقمة وآفة، هكذا خلق الله الحياة، مخلوطةٌ بين الجنة والنار.

فلا حسنَ إلا مع قُبح، ولا نور إلا مع ظلامات، ولا ورد إلا مع شوك، فالشاب غير المتزوج يظن أنه إذا تزوج فسيعيش في الجنة، لكن الزواج بداية المسؤولية ومواجهة المشاكل، وحين يتزوج يسعى الى إنجاب الأولاد، بعدها سيواجه مشاكلَ جديدة، فلابد وان يضحي بالنوم في أكثر الليالي، ويهتم باحتياجاتهم المختلفة، إذا في كل شيء آفة حتى في العلم، فالبعض يرى نفسه أنه أكبر إنسان. عن جعفر بن محمّد، عليهما السلام قال: “إنّ الله تبارك وتعالى يبغض الشيخ الجاهل، والغنيّ الظلوم، والفقير المختال”.

الفقر مذموم ولا يجوز لإنسان ان لا يبحث عن المال ويبرر ذلك بأن الفقر مطلوب، فهذا عجز وهو آفة، “العجز آفة” يقول أمير المؤمنين، فالله تعالى يريد أُناسا يعملون.

الغنى الحقيقي هو غنى النفس سواء كان مع المال ام بدونه

محمد بن المنكدر، وهو من علماء العامة، قال رأيت الباقر، عليه السلام، وهو متكئ على غلامين أسودين، فسلمت عليه فرد علي على بهر، وقد تصبب عرقا فقلت: أصلحك الله لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال في طلب الدنيا؟ فخلى الغلامين من يده وتساند وقال: لو جاءني أنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الله لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله فقلت: رحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.

 مدح الفقر في الأحاديث ليس موجها للفقير، بل للغني، كما ان مدح الغنى موجه للفقير، فلابد أن يكون توازن في المجتمع، لان القرآن الكريم يرفض الاختلال في توازن المجتمع، فليس في المجتمع الإسلامي مترف ومستضعف، وآكل ومأكول وما اشبه، وذلك التفاوت ليس له مبرر أنْ يوجد ويرفضه الله تعالى؛ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}.

_____________

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا