إضاءات تدبریة

صفات العاقل في القرآن الكريم.. الوفاء بالعهد وصلة الرحم

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.

من هو أسوأ حالا؟ الذي يفقد البصر أم الذي له بصر لكنه لا يرى به؟

عادة اللغة  الشائعة في العراق؛ أن الرجل اذا اصطدم بمكان وهو يرى يقول له الناس: (عَمى! ما تشوف)، ومن الطرائف ان اثنين من المكفوفين في أحد الازقة اصطدما ببعضهما فقال أحدهما: عَمى ما تشوف!

مَن أوتي العلم ولم يعمل هو أشد عمى ممن أوتي البصر ولم يبصر، لان الأعمى يُعذر إذا أخطأ في فعل، لكن ما يمتلك بصراً وهو يخطئ فليس معذورا، قال الإمام الصادق، عليه السلام، في بيتين شعريين:

ولقد عجبت لهالكٍ ونجاته موجودة

ولقد عجبت لمن نجا

مثيرات العقل

الانسان يحمل في ذاته المشاعر، والطاقات، والقوى، لكن لاستخدام تلك المواهب في حياته والاستفادة منها، لابد من شيء تثار به حتى يستفيد منها، فحتى علاقة الانسان بالجنس الآخر تكون عبر الإثارة، وكذلك الطعام، والشراب، فعامل الإثارة يجعل الفرد يستفيد طاقاته.

كذلك العقل لابد له مثيرات حتى يستيقظ من سباته، لا هناك عقول مدفونة، بسبب السلبيات، والتراكمات الأخرى.

لذلك أمير المؤمنين، عليه السلام، في كلمته في حكمة بعث الانبياء، يقول: “وليثيروا لهم دفائن العقول”.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}هناك كلمة في القرآن تتكرر بصيغة مختلفة، وهي الذكر، فقد وردت بصيغ متعددة؛ أهل الذكر، تذكّر وما اشبه، ولذا لابد من الاشارة الى انه حين نقرأ آيات القرآن الحكيم، والروايات الشريفة، لابد ان نرجعها الى اصولها اللغوية حتى نفهم أبعادها المختلفة، قال الإمام الصادق، عليه السلام: “ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج”.

كلما كان العمل متوافقا مع العقل ازداد، وكلما كان العمل مخالفاً فإن العقل ينقص حتى ينتهي

وقد اودع الله في روح الانسان فطرة وحملها الحقائق كلها بصورة اجمالية وليس تفصيلية، ولكن الانسان ينسى بسبب الغفلة، والذي يتذكّر هو من يسعى ويبحث عن الحقائق وليس عن ظواهر الاشياء.

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، فالذي يعلم يكون بصيرا بالاشياء، لان العلمَ نور، أما مَن لا يعلم فهو أعمى، لكن ليس عمى العين، بل عمى القلب، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} إنما يبحث عن اللُب والحقيقة و{يَتَذَكَّرُ} يعني يثير المعلومات التي يملكها ومن ثم يفعّلها، وذلك اشبه بالكمبيوتر الذي يكون فيه برامج تحتاج الى تفعيل حتى يستفيد منها المستخدِم، والمخ كبرنامج إذا لم تُحرّك وتفعّل الملعومات التي في الدماغ لا يستفيد منه الانسان شيئا.

من سنن الله في خلقه؛ أن الانسان كلما استفاد من شيئ يزداد، وكمثل الذي يمرّن عضلاته وينميها تصبح عضلاته مفتولة وقوية، بينما الذي لا يقوم بذلك لا تنمو عضلاته، وكذلك الفرق بين الانسان العالِم الذي يكتب ويؤلف، وبين العالِم الذي لا يكتب، فالاول يزداد علمه، والثاني ينحسر شيئا فشيئا.

والعقل كذلك؛ فهناك علاقة تفاعلية بين عقل الانسان وبين عمله، فكلما كان العمل متوافقا مع العقل ازداد، وكلما كان العمل مخالفاً فإن العقل ينقص حتى ينتهي، فما هي الامورالتي تزيد العقل؟

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ

من صفات العاقل في القرآن الكريم

الصفة الاولى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} العقل يأمر بأن يحترم الانسان كلمته وشخصيته، وكرامته، وعهده، فإذا عاهد الانسان ربّه يجب ان يلتزم به، فالعلاقة بين الباري جل وعلا، علاقة الميثاق، ففي عالم الذر أخذ الله ميثاقا من كل البشر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فإذا احترم الانسان عهده مع الله سيحترم عهده مع الناس، فالانسان حين يقطع عهدا مع آخر ويؤكد ذلك بقوله: “والله” فقد جعل العهد يخرج من عهد الانسان الى عهدة الله، لذلك علاقة الانسان المؤمن بأخيه علاقة ربانية ولذلك ستكون علاقة جيدة ومنتجة.

{وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} هناك عهد وهناك ميثاق؛ يبدو ان الثاني اقوى من الاول، فالميثاق عبارة عن عمل مشترك بين مجموعة من الناس ويتعاهدون فيما بينهم فيتفقون على ميثاق معين.

الصفة الثانية: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} صلة الرحم من الامور المهمة التي يجب ان تكون ذات اولوية عند الانسان المؤمن، فلصلة الرحم آثار دنيوية قبل الأخروية، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “صلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار”، وقال الإمام الباقر، عليه السلام: “صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل”.

وأعظم رحم علينا أن نصله هو رحم رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقد قال: “أنا وعلي ابوا هذه الامة”.

الانسان يحمل في ذاته المشاعر، والطاقات، والقوى، لكن لاستخدام تلك المواهب في حياته والاستفادة منها، لابد من شيء تثار به حتى يستفيد منها

عن أبي عبد الله، الصادق، عن أبيه، عليهما السلام، قال: قال لي أبي علي بن الحسين (صلوات الله عليهما): يا بني انظر خمسة ..” وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع قال الله عز وجل: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، ” وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، ” وقال في البقرة: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}.

وعن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله، عليه السلام: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}؟ قال: نزلت في رحم آل محمد عليه وآله السلام وقد تكون في قرابتك، ثم قال: فلا تكونن ممن يقول للشيئ: إنه في شيئ واحد.

فإذا اراد الانسان ان يزداد عقله وهو أهم ما عنده، فليعمل بالمنهج القرآني، التذّكر، والالتزم بالميثاق فيما بين الانسان وبين الناس، وصلة الرحم.

 __________

(مقتبس من درس التفسير الموضوعي لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا