{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}
كلمة كثيرة التداول، قليلة التطبيق رغم إن شريحة لابأس بها من أبناء المجتمع الإسلامي – في العراق وبلاد أخرى- يمارسون العمل في سبيل الله بأشكال وطرق مختلفة الى جانب أعمالهم الوظيفية –الحكومية- والتجارية، ولعل أبرز مثال؛ الاعمال المختلفة التي نراها أيام شهري محرم وصفر، وايضاً؛ خلال شهر رمضان المبارك، الى جانب المتفرغين بالأساس لهذا النوع من العمل في مؤسسات خيرية أو ثقافية، الجميع يقومون بأعمال طابعها العطاء وإفادة الناس في إغاثة ملهوف، او تذكير لإصلاح، او التصدّي للفساد، والشعار الكبير المرفوع عالياً: “عملٌ في سبيل الله”، بمعنى أننا نرجو بهذه الاعمال السير باتجاه نيل رضوان الله –تعالى-، رجاء المثوبة يوم القيامة، ومن ثمّ؛ فنحن نعمل ونعطي ونقدم ونبذل الجهود الذهنية والعضلية دون التفكير بمردود مادي كما هو حال الفلاح في مزرعته، او الموظف عند نهاية الشهر، والتاجر عند تسويق بضاعته.
أول من علمنا كيفية العمل في سبيل الله؛ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في بدايات تشكيله المجتمع الإسلامي في المدينة عندما حثّ عامة المسلمين على أعمال ذات مردود معنوي الى جانب أعمالهم ذات المردود المادي، بل حتى العمل التجاري لكسب قوة العيال يعده رسول الله “جهاداً في سبيل الله”، فهو يعلمنا الإيثار، والتعاون، والتكافل، والإنفاق، ضمن منظومة الأخلاق والآداب الاجتماعية، حتى مسألة استضافة المؤمن لأخيه المؤمن وإفطاره في شهر رمضان بمقدار شقّة تمرة، ويعدها، صلى الله عليه وآله بمنزلة الطريق الى الله –تعالى-.
الأعمال التي نعدها في سبيل الله، لم تأتِ بدعوة من أحد من الناس، إنما هي مبادرة فردية، او فكرة من تجمع رسالي ذو رؤية حضارية بعيدة المدى للمساعدة على صياغة أفضل البدائل والحلول بما أمكن
هذا من عامة الناس، أما المتفرغين لهذه الاعمال ممن هم في الهيئات والمؤسسات الخيرية والثقافية، فهم أقرب الى الدعوة النبوية للعمل في سبيل الله، وأحوج من غيرهم لمصاديق عملية لهذا الهدف السامي، فكيف يكون عملهم خالصٌ لوجه الله –تعالى-؟
من يصعد المنبر، أو يكتب، او ينشر، او يؤم الجماعة، او يجمع الناس لتعليمهم أحكام الدين وتلاوة القرآن الكريم والتدبّر فيه، ونشر علوم وثقافة أهل البيت، وغيرها من الأعمال التي نعدها في سبيل الله، لم تأتِ بدعوة من أحد من الناس، إنما هي مبادرة فردية، او فكرة من تجمع رسالي ذو رؤية حضارية بعيدة المدى للمساعدة على صياغة أفضل البدائل والحلول بما أمكن، فليس من المنطقي أن يطلب أحد مردود مادي ممن لم يطلب منه أن يكون شغله خطيباً او كاتباً او مبلغاً، وإلا فان فرص العمل لكسب المردود المادي متوفر في الأسواق، لاسيما هذه الأيام، حيث تنوعت اشكال الاعمال والمهارات حتى تحولت أعمال لم تخطر الى بال الى مهنة لها رجالها وأدواتها وسوقها المُربح.
وما دمنا نسترشد برسول الله في كيفية العمل في سبيل الله، يجدر بنا مطالعة سيرة من كانوا حوله، يسمعون كلامه، ويقاتلون بين يديه، ثم رحلوا وتحولوا الى أسماء نقرأها اليوم.
مثلاً؛ أبوذر الغفاري، ذلك الصحابي القادم من الحرمان والفقر، ويدخّر لنفسه سابقية في الإسلام من مكة الى المدينة، خاض جهاداً وقتالاً مريراً الى جانب رسول الله، وحصل على وسام الصدق الذي لم يسبقه أحد من قبل ولا من بعد الحصول عليه من رسول الله –ما عدا أمير المؤمنين- “ما أقلّت الغبراء ولا أظلت الخضراء عن ذي لهجة أصدق من أبي ذر”، وحتى آخر لحظة من حياة رسول الله، بقي ذاك أبوذر الفقير والمعدم، واستمر في إخلاصه للرسالة طوال خمسة وعشرين عاماً حتى عهد الحاكم الثالث الذي لقي منه ما لقى من مشركي مكّة من ركل وضرب وإهانة لمجرد قوله كلمة الحق، فقد بقي على فقره، وعلى الاضطهاد والتهميش من الآخرين، ولم يحوّل تاريخه الجهادي الطويل الى رصيد مالي كما فعل آخرين من مدعي الصحبة لرسول الله، عندما مات أحدهم وأرادوا تقسيم تركته على أولاده، احتاجوا الى فأس لتكسير قطع الذهب المكتنزة عنده!
وفي تاريخنا المعاصر الكثير الكثير ممن يصدق عليهم “العمل في سبيل الله”، عاشوا شظف العيش ومنغّصات الحياة من أجل ان يكتبوا، او يتحدثوا، او ينشروا، او يبلغوا لقيم الدِين والأخلاق، ثم ماتوا بصمت وهدوء، ربما لم تُنظم لهم مواكب تشييع مهيبة، ولم يتقلدوا دروع التكريم، ولا المديح والإطراء، بل حتى “بارك الله بكم”، ولكن؛ كلماتهم وافكارهم وأعمالهم خالدة في النفوس، باتت مصدر إلهام لفكرهم وسلوك الكثير من الناس، لأنهم فهموا الآية القرآنية التي صدّرنا بها المقال، جيداً و وعوها: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، فالإخلاص والإيمان بالله –تعالى- هو الذي يرفع العمل بين الناس في الدنيا ويخلّده في الآخرة.
في تاريخنا المعاصر الكثير الكثير ممن يصدق عليهم “العمل في سبيل الله”، عاشوا شظف العيش ومنغّصات الحياة من أجل ان يكتبوا، او يتحدثوا، او ينشروا، او يبلغوا لقيم الدِين والأخلاق، ثم ماتوا بصمت وهدوء
بالمقابل هنالك اشخاص كُثر عدّوا انفسهم من العاملين في سبيل الله بمختلف الاشكال، وبذلوا، وانفقوا، واجتهدوا، ولكن بعد مماتهم لم يبق لهم سوى الإسم، وربما طواهم النسيان بين كثرة أسماء الراحلين عن هذه الحياة ممن تصوروا أن وجودهم سبباً لدوام الخير والبركة على الناس، ولكن يا حسرتهم! هم تحت التراب منسيون فيما الحياة مستمرة والناس يعيشون برحمة رب العالمين.