{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.(سورة الاحزاب، آية: 33).
ليس منا من لا يتمنى أن يتحدث عن إمام المتقين وسيد الوصيين ويعسوب المؤمنين أسد الله الغالب والنجم القدسي الثاقب ذلك هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه .
وأنا أيضا أود أن أتحدث عن وصي رسول الله، صلى الله عليه وآله، لمناسبة ذكرى ولادته الشريفة، ولكن ترى ماذا يمكنني أن أقول وأنا الغافل الجاهل القاصر عن معرفة كنه بعض الناس.
فكم تحدث قبلي وقبل آبائي وأجدادي من الحكماء والفقهاء، والشعراء، والأدباء والفلاسفة والمناطقة، فإذا كنت أنا القاصر الذي لا أبلغ كنه معرفة أقل الأولياء فما عساي أن أقول فيمن قال فيه صاحبه وصاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأنه لا يعرفه .
يوم سأل أحدهم أبا ذر عن أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، حين قدم فقال: من الذي جاء قال لا أعرفه وإذا به علي بن أبي طالب، فقال السائل لرسول الله، صلى الله عليه وآله، يا رسول الله إنك قلت في أبي ذر: “ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر”، فسألته عن علي صلوات الله عليه فقال: لا أعرفه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: صدق ابو ذر ما عرف عليا إلا الله وأنا.
إذن بعد هذا كله أود أن اقول: ليس لدي ما أقوله من جديد ولكن لكي أتشرف بمشاركتي بالحديث في مثل هذه المناسبة فأبدأ القول:
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}.(سورة الفرقان؛ آية:54)، كان التأريخ يود أن يدون في سجله ميقات ولادة تخط بحروف من نور، فآن أوان الإستجابة، وخطت بحروف قدسية مبجلة.
كانت ليلة ليست كمثل الليالي، رغم أن الليل يلبس أطباقا من الدياجير، إنما تلك الليلة كانت غاية في الإشراق تسبح في محيط من نور، إذ كان الكون فيها ينتظر وافدا من أعلى عليين.
من سوف يستقبل هذا الوافد؟
تحية البيت الحرام:
الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس ليؤمه الحجيج ويصلي به كل قادم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ويؤدي التحية فيه لله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله.
الكعبة هذه الليلة تنتظر وافدا إليها لتؤدي تحيتها وهي أول تحية تؤديها لأول مخلوق في هذا الكون كله، هل سمع أحد يوما أن الكعبة تؤدي التحية؟
وما هي تحيتها وكيف أدتها؟
نعم أدت التحية واحتضنت الوافد الكريم وذلك حين انشق جدارها لتدخل حاملة النور الإلهي وتوصد الأبواب .
وتتنزل نسوة من خير النساء من الجنة ليكن قابلات لأم وليد الكعبة ويسهلن عليها المخاض ويدثرن الوليد بثياب سندس استبرق هبطن بها من الجنان
ولادة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، هي ميقات وضع الحجر الأساس لبناء صرح الإسلام العظيم وتشييد حضارته وبناء الإنسان الجديد
ثم تخرج بعد أيام ثلاثة بعد أن غادرتها القابلات من نساء الجنة، تخرج وهي تحمل النور على ذراعيها الشريفتين ووجهه يطفح بالبشر ويشع بالإشراق .
هل من مهنئ؟
نعم؛ أول مهنئ بولادة هذا النور هو الله جل وعلا، وأول بشرى تثلج صدر رسول الله، صلى الله عليه وآله، مصحوبة بتحية من ربه، إذ يقول صلى الله عليه وآله: “لقد هبط حبيبي جبرئيل في وقت ولادة علي صلوات الله عليه فقال: يا حبيب الله العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويهنئك بولادة علي ويقول: هذا أوان ظهور نبوتك وإعلان وحيك وكشف رسالتك إذ أيدتك بأخيك ووزيرك وصنوك وخليفتك، ومن شددت به أزرك وأعلنت به ذكرك فقم إليه واستقبله بيدك اليمنى فإنه من أصحاب اليمين . وشيعته الغر المحجلون .
وأنا أقول: بهذه المناسبة:
وضَعتْهَ بنتُ الليثِ ليثاً ضاريــا
بين الأسودِ مبجلاً عالي الجناب
فليفخرِ البيتُ الذي قهرَ الدجـــى
بقدومِ شمسٍ لا يدانيها الســحاب
الليلةُ العصماءُ عاودَ طلقُهـــــــا
وأتى مخاضُ نجاتِها بعد الغيـاب
وتنفسَت رئةُ الحياةِ نقاهــــــــــةً
وإذا به النفسُ الشهيقُ المستطاب
تشييد صرح الإسلام:
ويبدأ صرح الإسلام بالعلو والشموخ والتسامي وتبدأ الأصنام بكل أشكالها وأنماطها وأنواعها تعد عدا تنازليا لميعاد وئدها .
ولادة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، هي ميقات وضع الحجر الأساس لبناء صرح الإسلام العظيم وتشييد حضارته وبناء الإنسان الجديد، يقف صلوات الله عليه، ليدافع عن الرسالة المحمدية بكل ما أوتي من ملكات طبيعية وإعجازية، يعطي، ويعطي، ويعطي دون أن يأخذ لا من الصفراء ولا من البيضاء.
يقوم الإسلام بسيفه لكنه إذا أراد أن يتقوت فليس إلا بقوت يسد رمقه أو يلبس قميصا، يمتنع من بيت المال حتى يرهن سيفه أو يبيعه من أجل ذلك.
لم تكن ديباجة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، ثوبا من الخز أو من الحرير يتباهى بها أمام الناس بل كانت ديباجته التقوى والورع والزهد، ورعاية الفقراء، والمساكين وولايته ديباجة كل مؤمن، كانت دابته الفارهة العقل النير المتفتح، وداره الواسعة صبره، وثيابه الجميلة حياؤه، وسراجه المضيء فعله.
عابد زاهد ساجد يصلي لله حتى تتورم قدماه، وحين يرخي الليل سدوله يقف ليقول: يا دنيا يا دنيا، إليك عني أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت لا حان حينك هيهات غُرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول المجاز وبُعد السفر، وعظيم المورد.
اللهم لا تسلط علينا من لايرحمنا:
عن جعفر عن أبيه عن علي، صلوات الله عليهم:
إنه اشتكى عينه فعاده رسول الله، صلى الله عليه وآله، فإذا علي، صلوات الله عليه، يصيح، فقال له النبي، صلى الله عليه وآله: أجزعا أم وجعا يا علي؟
لم تكن ديباجة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، ثوبا من الخز أو من الحرير يتباهى بها أمام الناس بل كانت ديباجته التقوى والورع والزهد، ورعاية الفقراء، والمساكين
قال: يا رسول الله: ما وجعت وجعا أشد منه. قال: يا علي إن ملك الموت إذا نزل ليقبض روح الفاجر انزل معه صفودا من نار فيقبض روحه بها فيصيح جهنم .
فاستوي علي صلوات الله عليه جالسا فقال: يا رسول الله أعد علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت فهل يصيب ذلك أحدا من أمتك؟ فقال: نعم حكاما جائرين وآكل مال اليتيم وشاهد الزور، اللهم لا تسلط علينا حكاما جائرين.
ذاكر الله في كل حين:
حتى في مسيره للحرب إذا سار صلوات الله عليه ذكر اسم الله تعالى حتى يركب ثم يقول:{سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} والحمد لله على نعمه علينا وفضله العظيم عندنا، ثم يستقبل القبلة ببغلة رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويدعو الله ويحمده ويمضي.
خُلق أمير المؤمنين صلوات الله عليه:
يقف على بزاز ليشتري له ثوبا فيسميه البزاز ويقول: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين، فينصرف عنه، ويمضي لمن لا يعرفه خشية أن يرتاب منه أو يجاريه، وذهب ويشتري ثوبين فيأخذ أرداهما الذي هو بدرهمين ويعطي أفضلهما الذي هو بثلاثة دراهم لقمبر ويقول له: أنت شاب لك شَرَه الشباب وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليك، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون.
أية قيم تلك؟
وأية مبادئ؟
أية صيانة للحقوق؟
أي احترام للرأي وللذوق وللإحساس ولكل ما يشير إلى علامات الإنسانية، كان يمكن له أن يمتلك كنوز الأرض إذا شاء لكنه يُقبل على الطعام وهو جائع وأي طعام، يقول عبد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوم عيد فقدموا جرابا مختوما فوجدنا خبز الشعير فيه يابسا مرضوضا، فأكل وختم فقلت: يا أمير المؤمنين لِمَ تختمه؟
فقال: خفت هذين الولدين يعني الحسنين أن يلثاه بسمن أو زيت.
قرص شعير يابس يكسره بيده فإذا عُسر عليه كسره بركبته .
ثم قام وحمد الله وضرب يده على بطنه وهو يقول: من أدخله بطنه النار فأبعده الله وينشد:
فإنك مهما تعطي بطنك سؤله
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
فأنا أقول:
يا لائمـي لمـّا الفـؤاد أصـابـا
في حب طه والوصي فذابا
لِمَ ذاك، هل في الحبِ غير تقربٍ
للهِ هل خلتَ الوفاء معابـا
أنا لستُ أولَ من أحبهمـا ولا
سأكون آخرَ من أحبَ وحابا
الله أولُ من أحبهما وكـم
لهمـا غـدا بعطائـِهِ وهّابا
الكونَ أنشأَهُ لأجلهمـا لـذا
قد صار نورُهمـا به منسـابـا
الأرضُ سوف تميد إن شاءا وإن
شاءا بهمسٍ يكشفان ســحابا
ودليلـي أن طه البراق له انحنى
ووصيُه أمـر الدجى فانجابــا
اية مدرسة تلك؟
أضخم واوسع مدرسة حضارية إنسانية عمق امتدادها يتصل بالسماء، مدرسة إلهية محمدية عظيمة، منهاجها القويم هو المرشد إلى الصراط المستقيم، والآخذ باليد إلى الجنة. أين نحن من الإنتماء إلى تلك المدرسة الإنسانية الأخلاقية الحضارية التي ترسم القيم وترسخ المبادئ، وتعبّد طريق الحرية للفرد ليتمتع بكرامته وحريته وانسانيته، فلننتمِ انتماء صادقا حقيقيا لا صوريا هامشيا هزيلا .