تعرضت الأمة لامتحان القيادة في عهد الامام الجواد، بولادته في مرحلة كِبر والده الامام الرضا، عليهما السلام، فقد سؤل من أحد المقربين بأن الى من نرجع بعدك، فأشار بيده الى ابنه أبي جعفر الجواد، فقيل له “جعلت فداك، هذا ابن ثلاث سنين، فقال الامام الرضا –رواية الشيخ الكليني- وما يضره من ذلك، فقد قام عيسى، عليه السلام، بالحجة وهو ابن اقل من ثلاث سنين”.
ثمة دلالات عدة وراء هذا الاختبار والامتحان، نسلط الضوء على أمرين هامين على صلة بالمسيرة الرسالية للأئمة المعصومين، عليهم السلام، وبمصير الأمة ومستقبلها:
الأمر الأول: التصدّي لفقهاء البلاط
تولّى الامام الجواد مهام الإمامة في وقت كان الحكام العباسيون يبذلون قصارى جهدهم لخلق ما يشبه الحوزة العلمية البديلة يكون مكانها في البلاط وليس الى جوار الأئمة في حياتهم، او الى جوار مراقدهم المشرفة، ولنا أن نتصور حال الأمة في حقبة تسود فيها الميوعة وحب المال والسلطة، وتقل فيها مصادر العلم والمعرفة وسبل الوصول الى الحقائق، الى درجة أن يؤتى بسارق الى قاضي قضاة المسلمين فلا يعرف كيف يقيم الحدّ عليه!
حصل هذا في حضور المعتصم العباسي الذي أمر بإحضار الامام الجواد من المدينة الى بغداد للمرة الأخيرة، وتقول المصادر أن نبأ وصوله أدخل الفرح والسرور في قلوب طلاب العلم ورجال الفقه والحديث لمعرفتهم بمنزلته العلمية التي لا يرقى اليه أحد في زمانه، فسأل المعتصم أحد أنصاف العلماء ويدعى؛ ابن ابي داود عن رأيه في كيفية إقامة الحد على هذا السارق تطبيقاً للآية القرآنية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، فقال: تقطع يده من الكرسوع، فقال له المعتصم: وما الحجة على ذلك، فقال: لأن اليد هي الأصابع، والكف الكرسوع، لقول الله في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}، وقال آخرون: بل يجب ان تقطع من المرفق لقول الله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} في الوضوء.
وكان الامام الجواد بين الحضور ملتزماً الصمت، فسأله المعتصم عن رأيه فقال: “إنهم – فقهاء البلاط ــ أخطأوا السنّة، فان القطع يجب ان يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكف، فسأله المعتصم عن الحجة في هذا، فقال الامام: لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فاذا قطعت يده من الكرسوع او المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله –تعالى- {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}، يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.
إن فترة الامام الجواد، عليه السلام، على قصر سنواتها، كان لها الفضل في إعداد ثلّة من العلماء والفقهاء ممن برز بينهم عدد من الوكلاء الموثوقين عن الأئمة من بعده؛ الامام علي الهادي والامام العسكري، والامام الحجة المنتظر، عليهم السلام
أُعجب المعتصم برأي الامام وحكمه، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف، وحسب بعض المصادر فان فقهاء البلاط أرادوا إخفاء هزيمتهم المنكرة في هذا المجلس بنسج مخاوف وهواجس للمعتصم من الامام الجواد، وأنه بهذا الحكم، واحكام فقهية أخرى في قادم الأيام يتخذ لنفسه موقعاً قيادياً في المجتمع والأمة فتقوى شوكته وربما يفكر بانتزاع الحكم منه، ومنها كان تفكير المعتصم بتصفية الامام الجواد جسدياً وتدبير أمر اغتياله بالسمّ عبر زوجته المتمردة؛ أم الفضل، شقيقته وابنة المأمون.
وللإمام جولة مناظرة علمية أخرى معروفة ورائعة مع يحيى بن اكثم الذي يصفه المؤرخون بأنه “قاضي القضاة” في زمانه، وقد تحدث عن هذه الواقعة الخطباء والكتاب كثيراً، ولولا سعة المقام لذكرناها كاملة، وهي موجودة فيمن كتب عن حياة الامام الجواد، عليه السلام، بشكل مفصّل، أثبت فيها الامام إن حاجة الأمة الى الفقاهة الأصيلة لا تتوقف عند مقدار العمر، او فترة الدراسة في الحوزة العلمية، او من هذه البلد او ذاك، او حتى إن كان من غير العرب، إنما المهم ان تكون الاحكام متصلة مباشرة بسيرة رسول الله، كما يعلمنا الامام الجواد، وايضاً؛ بالقرآن الكريم.
الأمر الثاني: معالجة أزمة التفقّه في الدِين
إن هزيمة فقهاء البلاط أمام الامام الجواد كان لها أصدائها بين البغداديين، وإن كان التناقل ليس كما هو اليوم، بيد أن الخبر يُشاع، فيكون الدرس بليغاً بضرورة التفقّه في الدِين والتواصل مع أهل العلم لتعلّم أحكام الدِين، وعلوم القرآن الكريم والحديث والسيرة الى جانب العلوم الإسلامية الأخرى.
ولا أجانب الحقيقة بالقول: إن فترة الامام الجواد، عليه السلام، على قصر سنواتها، كان لها الفضل في إعداد ثلّة من العلماء والفقهاء ممن برز بينهم عدد من الوكلاء الموثوقين عن الأئمة من بعده؛ الامام علي الهادي والامام العسكري، والامام الحجة المنتظر، عليهم السلام، ممن رووا الاحاديث في الفقه والأخلاق والآداب وايضاً؛ الاذكار والادعية.
هزيمة فقهاء البلاط أمام الامام الجواد كان لها أصدائها بين البغداديين، وإن كان التناقل ليس كما هو اليوم، بيد أن الخبر يُشاع، فيكون الدرس بليغاً بضرورة التفقّه في الدين والتواصل مع أهل العلم لتعلّم أحكام الدين
وفي كتابه؛ الامام محمد بن علي الجواد، ضمن سلسلته في سيرة الأئمة الاثني عشر، يقول الشيخ محمد حسن آل ياسين: “ان الفضل الأكبر في وقوف الأجيال التالية لعصر الامام على تراثه العظيم، وما حمل من فكر وعطاء، إنما يعود الى أولئك الرواة عنه والمشافهين له الذين سمعوا منه ذلك فحدثوا به وابلغوا الى من جاء بعدهم، فانعموا علينا بالإفادة منه والإطلاع عليه والاهتداء بأنواره”، وهذا يُعد درساً بليغاً لنا وللاجيال القادمة بأن نهتم بأمر التعلم والتفقه الذي طالما أوصانا به الأئمة الاطهار كواجب كفائي على افراد المجتمع لعدم ترك الناس مع اسئلتهم واستفهاماتهم بخصوص مختلف شؤون الحياة فتكون النتيجة كما نراها اليوم.