إضاءات تدبریة

ما هو العلم الذي ينمّي العقل؟

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

هناك كلمة تقال: أن العلم الحجاب الاكبر وآخرون يقولون: العلم وسيلة الى معرفة الرب سبحانه وتعالى، فهو نور يقذفه الله في قلب من يشاء، وبين الكلمتين فيصل؛ العلم قد يكون حجابا وقد يكون وسيلة لمعرفة الباري تعالى.

احيانا يكون العلم حاجبا عن المعرفة الإلهية، ولنضرب لذلك مثلا، لو أنك ذهبت الى غابةٍ ابهرك شكل شجرة كبيرة مورقة مونقة ذات ظلال ورافة، فما إن رأيت هذه الشجرة إلا واستمتعت بمنظرها، لكنها حجبتك عن رؤية الغابة الواسعة!

مئة وعشرون ألف كتاب أُلفت حول النملة، تلك الاعجوبة من خلق الله؛ فمن يكتب كتابا حول النملة لابد ان يعرف ان خالقها هو خالق النحلة، والنخلة، والارض والسماء، لكن قد تحجبه معرفته بتلك الحشرة الصغيرة عن معرفته بالخالق تعالى، ومعرفة آلاف المجرات التي تضم كل واحدة منها آلاف المنظومات الشمسية.

مشكلة العلم الحديث انه بُني على اساس التجرّد من الدِين والبعد عن المعرفة الالهية، فهو علم يتمحور حول إطار ضيق، فهومعلومات عن اشياء، لذلك تجد انه لا يهدي الانسان، بل يحجبه عن المعرفة الالهية.

ولذلك يجب ان نبدأ وننتهي؛ نبدأ من معرفة الحقائق صغيرها وكبيرها، وننتهي الى معرفة الرب ــ تعالى ــ لانه خالق كل الاشياء، فهو الذي خلق السماوات والارض، وأبدع نظام الطبيعة، وخلق البحر، والسفينة التي يستفيد منها الانسان، حين نصل الى تلك المعرفة ونعرف ربنا، ننتهي الى حقيقة أن كل شيء واحد، ويعني ذلك ان الحقائق تتكامل.

 والرؤية التكاملية هي الرؤية العقلية، فالعقل يجمع بين الحقائق، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، نبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله، كان يقرأ هذه الآية كلما قام لصلاة الليل.

مشكلة العلم الحديث انه بُني على اساس التجرّد من الدِين والبعد عن المعرفة الالهية، فهو علم يتمحور حول إطار ضيق، فهو معلومات عن اشياء، لذلك تجد انه لا يهدي الانسان، بل يحجبه عن المعرفة الالهية

فالبداية ذكر الله، والتفكر في خلق الله، والنهاية {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فالعقل في لحظات سار سيرا عظيما، فذهب تفكيره الى بداية الخليقة، ومن ثم وصل الى نهاية الخَلق والغاية من وجوده؛ فهناك حساب وعقاب، فالله تعالى لم يخلق الانسان عبثا وعليه ان يسعى لتخليص نفسه من نار جهنم.

العلم بذاته نور وذلك النور ينير قلب الانسان ومن خلاله يتم الوصول الى الحقائق، وحين خلق الله العقل جعل العلم وزيره، وهذا ما تبينه روايات أهل البيت، عليهم السلام.

قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “من ازداد علما ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا”، وكذلك الإنسان المتعلم يزداد تواضعا كلما زاد علمه؛ فكلما زاد علم الانسان لابد ان ينعكس التواضع عليه، والشجرة المثمرة تتدلى اغصانها الى الاسفل، اما تلك التي لا تحمل ثمرة ترتفع الى الاعلى، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: تواضعوا لمن تتعلموا منه العلم ولمن تعلمونه”

ومن القصص الرائعة: أن عيسى بن مريم عليه السلام: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي، قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله.

 فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالِم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى عليه السلام: بالتواضع تُعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل”.

 وهذا العلم هو طريقنا الى الله، لكن العلم الذي يورث التكبر والتجبر والتعنت، إنما هو حجاب دون معرفة الرب.

بصائر الايات

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} مقدار حجم السماوات والارض لا يعرفها احد حتى افضل الخبراء في الفلك والنجوم، فحجمها كبير، ودقتها غير متناهية، فالآف الشموس تسير ضمن نظام دقيق بحيث لا تصطدم ببعضها البعض، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، فالدقة والحكمة موجودة في كل شيء، وكل مخلوق وُجد لهدف وغاية ويؤدي دوله المنوط به.

{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في بداية الاية بدأ الحديث عن السماوات والارض، ثم جاء الكلام عن الليل والنهار.

{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} وهذا بيان لمثل قريب من واقعنا، فافضل وسيلة منذ القدم لحمل البضائع هي الفُلك (السفينة).

العلم بذاته نور لكنه وذلك النور ينير قلب الانسان ومن خلاله يتم الوصول الى الحقائق، وحين خلق الله العقل جعل العلم وزيره، وهذا ما تبينه روايات أهل البيت، عليهم السلام

{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} السحاب تسير ضمن قانون رباني حكيم، والامطار التي تنزل على مكان ما إنما تكون بتقدير إلهي، فهناك علاقة عجيبة بين حاجة الارض الى الماء ومجيء السحاب فوق بقعة معينة من الارض.

{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إذا نظرنا الى الطبيعة من حولنا وهي خلق الله تعالى؛ سواء الخلق الصغير ام الكبير، إذا نظرنا برؤية إيمانية، حينها ستنمو عقولنا، ويزداد إيماننا، والانسان عليه ان يجعل الحياة جامعةً يتعلم كل يوم شيئا جديدا لينمو علمه وإيمانه وحكمته وأخلاقه وكل شيء يساهم في تقدمه وتكامله.

____________

(مقتبس من درس التفسير الموضوعي لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا