يُعدُّ الإمام علي الهادي، عليه السلام، الإمام العاشر من أئمة أهل البيت، عليهم السلام، وقد كان له دور كبير في توجيه الفكر الإسلامي وتصحيح مساره.
عاش الإمام في فترة شهدت تحولات فكرية كبيرة، وانتشار تيارات فكرية متعددة، منها القدرية، والجبرية، والصوفية، والغلاة.
وهذه الأفكار وإن اختلفت مسمياتها وأشكالها ولكنها في محتواها وجوهرها واحدة، فحقيقة هذه الأفكار هو التنصل من المسؤولية وتبرير التقاعس والانطواء على الذات.
وقد ساعد على انتشار هذه الأفكار في وسط الأمة الإسلامية هم الطغاة وحكام الجور الذين لا يريدون الأمة أن تنهض ويتحمل ابناءها مسؤوليتهم في مواجهة ظلمهم وفسادهم، لذلك كانوا يروّجون للافكار التبريرية والخالية من المسؤولية في قبال الفكر الرسالي المسؤول الذي كان يحمله أهل البيت، عليهم السلام، واصحابهم واتباعهم، وأيضاً ممن ساعد على انتشار مثل هذه الأفكار هم المنتفعون والمصلحيون والذين يتخذون الدِين غطاءً لنيل اطماعهم.
وكذلك ادعياء العلم الذين كانوا يتخذون العلمَ حرفة يحصلون من خلاله على عطايا السلطان ويجلبون به وجوه الناس إليهم، ليحصلوا من خلاله بعض حطام الدنيا، فهؤلاء هم ينشرون أفكاراً تبريرية غير مسؤولة تبريراً لأنفسهم لعدم قيامهم بدورهم الإصلاحي ومسؤوليتهم الدينية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الصالح.
ولكن واجه الإمام الهادي، عليه السلام، هذه الأفكارالتبريرية بالحجة والبرهان، موضحاً انحرافها عن التعاليم الإسلامية الأصيلة، ومساهماً في حفظ العقيدة الإسلامية من التشويه.
فقد عمل الإمام، عليه السلام، على فضح هذه الأفكار والعقائد الباطلة وأمر بمقاطعة أصحابها ومما عمل عليه الإمام عليه السلام في حياته هو:
مواجهة الإمام الهادي لفكر القدرية والجبرية
القدرية والجبرية تياران فكريان نشآ حول مسألة القضاء والقدر ومسؤولية الإنسان عن أفعاله. اعتقدت القدرية بأن الإنسان هو خالق أفعاله، مما يجعل القدر الإلهي عديم التأثير، بينما ذهبت الجبرية إلى القول بأن الإنسان مجبر على أفعاله، وأنه لا يملك حرية الإرادة.
الإمام الهادي واجه هذين التيارين من خلال تقديم رؤية متوازنة تعكس المنهج الإسلامي الأصيل، حيث أكّد، عليه السلام، على أن أفعال الإنسان تقع بين الجبر والتفويض؛ فالإنسان مسؤول عن أفعاله بمحض إرادته، ولكنه في الوقت ذاته يعتمد على الله تعالى في توفيقه وقدرته. وقد استشهد الإمام الهادي عليه السلام في إحدى كلماته بمقولة الإمام الصادق عليه السلام: “لا جبر ولا تفويض، ولكن أمرٌ بين أمرين.”
من أبرز مواقف الإمام في مواجهة الفكر الصوفي تحذيره من الغلو في العبادة والتقشف، مؤكداً أن الإسلام دين الوسطية، فقد دعا الإمام إلى الاهتمام بالعمل في الدنيا دون أن يغفل الإنسان عن الآخرة، مشيراً إلى أن الزهد الحقيقي هو الزهد في الحرام، وليس الابتعاد عن النعم الحلال التي أباحها الله لعباده
وأيضاً في هذا الجانب روى الإمام الهادي عليه السلام عن آبائه عن جده أمير المؤمنين عليه السلام قوله: قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ خُرُوجِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَقَدَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَجَلْ يَا شَيْخُ! فَوَ اللَّهِ مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَلَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَقَدَرٍ.
فَقَالَ الشَّيْخُ: عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!
فَقَالَ: مَهْلًا يَا شَيْخُ لَعَلَّكَ تَظُنُّ قَضَاءً حَتْماً وَقَدَراً لَازِماً لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَلَسَقَطَ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مُسِيءٍ لَائِمَةٌ وَلَا لِمُحْسِنٍ مَحْمِدَةٌ وَلَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِاللَّائِمَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ وَالْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالْإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ.
تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وَقَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسِهَا! يَا شَيْخُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّفَ تَخْيِيراً وَنَهَى تَحْذِيراً وَأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَلَمْ يَخْلُقِ (السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار)ِ قَالَ فَنَهَضَ الشَّيْخُ وَهُوَ يَقُولُ –
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ
يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ دِينِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً
جَزَاكَ رَبُّكَ عَنَّا فِيهِ إِحْسَاناً
وللإمام الهادي، عليه السلام، رسالة مفصلة يبطل فيها عقيدة الجبر والتفويض، بأدلّة وبراهين مفصلة، لا يسع المجال في هذا المقال المختصر لذكرها، موجودة تلك الرسالة المهمة للإمام عليه السلام في كتاب تحف العقول.
بهذا الطرح، عالج الإمام جذور الانحراف في القدرية والجبرية، وأعاد التوازن إلى فهم العقيدة الإسلامية.
مواجهة الإمام الهادي للفكر الصوفي
شهدت تلك الفترة انتشاراً للفكر الصوفي الذي شابه الإفراط في بعض الجوانب، مثل الزهد المبالغ فيه والانصراف عن الحياة العملية، بالإضافة إلى مفاهيم باطلة كالقول بالحلول والاتحاد، رأى الإمام الهادي أن هذا الفكر يُخرج الإنسان عن مسار الإسلام الذي يدعو إلى التوازن بين الروح والجسد.
من أبرز مواقف الإمام في مواجهة الفكر الصوفي تحذيره من الغلو في العبادة والتقشف، مؤكداً أن الإسلام دين الوسطية، فقد دعا الإمام إلى الاهتمام بالعمل في الدنيا دون أن يغفل الإنسان عن الآخرة، مشيراً إلى أن الزهد الحقيقي هو الزهد في الحرام، وليس الابتعاد عن النعم الحلال التي أباحها الله لعباده.
ومما ورد عن الإمام عليه السلام من أحاديث؛ قال عليه السلام: الدُّنْيا سُوقٌ رَبحَ فيها قَوْمٌ وَخَسِرَ آخَرُونَ، وقالَ(عليه السلام): اَلنّاسُ فِي الدُّنيا بِالاَموالِ وَفِي الآخِرَةِ بِالاَعمالِ.
ومما ورد عن الإمام في ذم الصوفية وفضحهم ودعوة أصحابه لمقاطعتهم، وقد روى الشيخ المفيد، بإسناده عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، أنه قال: كنت مع الهادي علي بن محمد عليه السلام” في مسجد المدينة فأتاه جماعة من أصحابه، منهم أبو هاشم الجعفري و كان رجلا بليغا وكانت له منزلة عظيمة عنده ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية وجلسوا في جانبه حلقة مستديرة، ثم أخذوا بالتهليل.
فقال: لا تلتفوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم خلفاء الشياطين، و مخربوا قواعد الدين، يتزهدون لراحة الأجسام، ويتهجدون لتقييد الأنام، ويتجوعون عمراً حتى يذبحوا للأيكاف حمراً، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا للالتباس والاختلاف، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة وأحد منهم حياً أو ميتاً فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، و من أعان أحداً منهم فكأنما أعان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
فقال رجل من أصحابه، وإن كان معترفا بحقوقكم؟
قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أن أخس الطوائف الصوفية، والصوفية كلهم من مخالفينا،طريقتهم مغايرة لطريقنا.
مواجهة الإمام الهادي لفكر الغلاة
الغلاة كانوا فئة تنسب إلى أئمة أهل البيت صفات إلهية وتبالغ في تعظيمهم إلى حد الشرك. وقف الإمام الهادي، عليه السلام، بحزم ضد هذا الفكر المنحرف، وبيّن أن الأئمة عباد صالحون لله، اصطفاهم لهداية الناس، وليس لهم صفات ألوهية. كان الإمام حريصاً على تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة، وقطع الطريق أمام الغلاة الذين حاولوا استخدام اسمه لتعزيز أفكارهم.
في إحدى كلماته قال الإمام: “لعن الله من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا”؟
وروى الكشي بالإسناد عن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا.
وروى بالإسناد عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري، عليه السلام : جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب عليه السلام: ليس هذا ديننا فاعتزله.
بهذه الكلمات الصارمة، حدد الإمام موقفه من الغلو، ودعا الناس إلى الاعتدال في حب أهل البيت والتمسك بتعاليم الإسلام الصحيحة.
فإذن كان موقف الأئمة جميعاً، عليهم السلام، واضح تجاه أصحاب الأفكار التبريرية غير المسؤولة والعقائد الباطلة والثقافات الفاسدة، حيث أعلنوا صراحة رفضهم لكل تلك الأفكار وحذروا منها، واخذوا على عاتقهم نشر الثقافة الإسلامية الرسالية الحقة التي تدعو إلى أن يتحمل الإنسان مسؤوليته ويعمل بتكليفه، ويقوم بدوره في الحياة.
ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو ان الفكر التبريري ينتشر في كل زمان ويكون عاملاً أساسياً في تخلف الأمة وتراجعها، وانتشار الفساد والظلم فيها، وفي عصرنا هذا نرى انتشاراً واسعاً للافكار التبريرية تحت عناوين براقة، وبضعها بصبغة صوفية أو مغالاة، أو أقدار وحتميات، والبعض يصرح ويقول إننا غير مكلفين في عصر الغيبة بالعمل والإصلاح، وان الفساد والظلم والفتن هي محتمة علينا ولا يمكننا تغييرها أو إصلاحها ما دام الإمام الحجة غائباً وهو الوحيد القادر على الإصلاح.
وغيرها من التبريرات التي هي بضاعة العاجزين والمنطويين على ذاتهم، الذين لا يقومون بمسوؤلياتهم الدينية ولا يعملون بتكليفهم الشرعي، فيبحثون عن أعذار واهية يبررون فيها تقاعسهم وخنوعهم.
فصار ينتشر بين اوساط الشباب اليوم ومع الأسف الكثير من تلك الأفكار سواء الصوفية منها والتي تدعو الإنسان إلى أن ينطو على ذاته ويعتكف في زاوية يردد أذكار عبارة عن لقلقة لسان دون أن يفقه حقيقتها، وينفصل عن العالم الخارجي ويتخلى عن مسؤوليتاته الدينية التكليفية منها والإجتماعية.
واجه الإمام الهادي، عليه السلام، الأفكارالتبريرية بالحجة والبرهان، موضحاً انحرافها عن التعاليم الإسلامية الأصيلة، ومساهماً في حفظ العقيدة الإسلامية من التشويه
وكذلك أفكار الغلو وفساد العقيدة، فقد وصل الحال ببعض الشباب بترك العبادات الواجبة بسبب عقيدتهم بالائمة المغالية أو تركوا التوجه إلى القبلة بصلاتهم وتوجهوا إلى مكان آخر، أو البعض غيّر أذكار الصلاة وصار يقرأ أذكاراً خاصة به، حتى وصل الحال ببعضهم إلى الانتحار بحجة أنه يقدم نفسه قرباناً!
فلذلك على المؤمنين الرساليين والذين يريدون السير على نهج أئمة الهدى أن لا يستمعوا لمثل هكذا أفكار وثقافات وان يتحملوا مسؤوليتهم في نشر الثقافة الإسلامية الفاعلة والفكر الرسالي المسؤول، كما كان يفعل أهل البيت عليهم السلام، وان يعملوا على رفض وفضح هذه الأفكار وبيان حقيقتها للناس،
كان الإمام علي الهادي، عليه السلام، نموذجاً للإمام العالِم الذي يواجه الانحرافات الفكرية بحكمة وحزم، فاستطاع من خلال علمه وبيانه أن يُصحح مسار الفكر الإسلامي، ويضع معايير واضحة للتعامل مع القضايا الفكرية المعقدة، بذلك أسهم الإمام في الحفاظ على نقاء العقيدة الإسلامية من التشويه والابتداع، تاركاً إرثاً فكرياً عظيماً للأجيال اللاحقة.