قال أمير المؤمنين، عليه السلام: الصبر صبران صبر على ما تكره وصبر عما تحب”.
الحياة التي نعيشها ليست مفروشة بالرياحين دائما ولا يوجد انسان يستطيع ان يدّعي لدى الموت انه عاش كل حياته مرتاحَ البال، وانه لم يجد مشكلة ولا صعوبة في حياته، فهذه سنة الله عز وجل لكل البشرية، فليست هذه السنة خاصة بإنسان دون آخر.
لابد من مواجهة المشاكل، والمرور على المصائب، وعلى الانسان ان يقف امام الشدائد؛ فلا يوجد إنسان لم يَمت له قريب، ولا يوجد من لم يواجه مشكلة في طفولته، او شبابه، او شيخوخته، إلا اذا كان مجنونا لا يعرف للحياة معنى.
وإذا كانت الحياة مليئة بالمشاكل والمصائب فلابد ان يتسلّح الانسان لمواجهتها، والسلاح هو الصبر، “الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد كما لاخير في جسد لا رأسه معه لا خير في ايمان لا صبر معه”.
الايمان إنما يُركّز في قلب الإنسان من خلال ما يمر به من مشاكل في سبيل ذلك الايمان، فلا قيمة لايمان لم يُمتحن، وكما ان النار تذكي الذهب، كذلك المشاكل تُذكي إيمان الإنسان.
و جوهرة الانسان لا يمكن ان تظهر على حقيقتها من دون المرور على البلاء، بل إن الانسان لا يستطيع ان يعرف نفسه إلا إذا واجه عقبةً ومشكلة، بل لا يكتشف الفرد قدراته إلا حينما يواجه مشكلة، وحينها يعرف كيف يواجهها، وبهذا يصنع الانسان نفسه ضمن دائرة المشاكل.
الصبر في مواجهة المشاكل
وأقوى الناس هو اقدرهم على مواجهة المشاكل وذلك من خلال الصبر، وأمير المؤمنين عيه السلام، يقسّم الصبر الى نوعين: صبر عما تكره، وصبر عما تحب.
فقد يواجه الانسان قوة غضبية في داخله، فيدفعه الحقد الى اتخاذ موقف، وهنا يقاوم ذاته، فيصبر على ما يكره لانه يريد ان ينتقم لكنه يصبر.
والصبر الثاني؛ الصبر على ما تحب، وقد يقول احدهم: كلاهما صبر لان قوة النفس قد تظهر فيما يكره الانسان وفيما يحب، ولكن الناس فيما يرتبط بالصبر على اربعة انواع:
النوع الاول: الذين لا صبر لهم
هذا النوع ينهار أمام اصغر مصيبة ويستسلم امام أول شديدة، فالزمن والأحداث هي التي تصنع شخصية من لا صبر له، وليس هو صانع شخصيته، وهذا النوع يسير في الحياة بلا هدى، وذلك انه يستهدف أمراً لا يصل اليه، وحين لا يصل الى ما يريد يتراجع؛ ففي بداية حياته يريد ان يصبح دكتورا، ولكن في نهاية حياته يجد نفسه بقّالا، فهو قد بدأ جيدا، لكنه امام الشدائد تراجع وتقهقر.
الايمان إنما يُركّز في قلب الإنسان من خلال ما يمر به من مشاكل في سبيل ذلك الايمان، فلا قيمة لايمان لم يُمتحن، وكما ان النار تذكي الذهب، كذلك المشاكل تُذكي إيمان الإنسان
أو اراد ان يصبح عالما كبيرا في المجتمع لكن انتهى به المطاف الى رجل أُميّ لا يعرف القراءة والكتابة، وكثير من الناس من هذا النوع (الذين لا صبر لهم) لم يختاروا مصائرهم، وإنما الزمن هو الذي اختار لهم كيف يكونون.
النوع الثاني: الذين لهم صبر على ما يكرهون
وكمثال على ذلك؛ لو تعرض إنسان من هذا النوع لعنف فإنه يقاوم، ولكن في مقابل اغراء ينهار.
النوع الثالث: الذين لهم صبر على ما يحبون
وهذا النوع بخلاف النوع الثاني، فهو امام الإغراء قوي، ولكن امام الاكراه ضعيف.
النوع الرابع: الذين يجمعون الصبرَين معا
الحياة ملئية بالاكراه والاغراء، فمن جهة يجد المؤمن صعوبات في التزامه بالدِين، “سيأتي زمان على امتي القابض على دينه كالقابض على جمر” فالفتاة المؤمنة حين تلبس الحجاب تتعرض لضغوطات في المدرسة او الجامعة او من المجتمع وهذا نوع من الاكراه.
والصبر الذي هو من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد صبران؛ فإذا نجح فيهما المؤمن نجح في الايمان وإلا فلا يسمى نجاحا، فالسلم الذي نصعد عليه له جانبان، فاذا سقط احدهما لا يسمى سلما، ولا يمكن الصعود عليه.
الصبر في حياة أمير المؤمنين عليه السلام
إذا عدنا الى حياة امير المؤمنين نجد ان الصبر متجلٍ بكلتا حالتيه؛ الصبر فيما يحب، والصبر عما يكره، فهو الذي نام على فراش النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، بعد أن بيّت القوم قتلَ رسول الله، وهنا كان صبره عما يكره، فهو الذي عرّض حياته للموت فداءً للنبي الاكرم، وفي الحروب كان، عليه السلام، كان اول المبادرين اليها وكان لا يمشي، بل يهرول الى ساحة الحرب.
ومن جهة أخرى كان يصبر على ما يحب؛ فحينما أصبح خليفة واستلم مقاليد الحكم، وجُبي اليه الذهب والفضة، قد عاش خمسة وعشرين عاما في الحرمان، ولك ان تتصور إنسان جائع حين يقدم له الطعام كيف يهجم عليه!
أمير المؤمنين، عليه السلام، ظلَّ خمسة وعشرين عاما محروما من المال، والمنصب، والسلطة، حتى إذا وصلت كلها إليه رفضها، “يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظم المورد، وخشونة المضجع”.
وفيما بعد الامبراطورية التي جاءت اليه صاغرة خسرها هو وابناؤه من بعده، واستمر ذلك ألف عام، ذلك انه لم يخضع للاغراء، وكم كان الاغراء يحوم حول بيته، وبمقدار ما كان صامدا أمام الاكراه صمد أمام الاغراء.
الزمن والأحداث هي التي تصنع شخصية من لا صبر له، وليس هو صانع شخصيته، وهذا النوع يسير في الحياة بلا هدى
فقد قدموا اليه الخلافة بعد الخليفة الثاني على طبق من ذهب، ثم جاءت الخلافة على حد السيف فقال: انا لكم وزير خير لكم مني أميرا، وقال: لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي”.
وكثيرة هي المواقف المليئة بالصبر في حياة أمير المؤمنين، عليه السلام، سواء كان في الجانب الذي يحب، او الجانب الذي يكره، فبعد انتصاره في معركة الجمل لم ينطلق مع الخصم من موقع المنتقم او الحقود، فصلّى على قتلاهم كما صلى على قتلى اصحابه، ودفن قتلى اعدائه كما دفن قتلاه.
الذي يستطيع ان يصبر على ما يكره لا ينطلق من قوة غضبية، ولا من الحقد، فهو قادر على ان يضبط احقاده ايضا حتى يوم نصره وهو ما فعله عليه السلام مع الطرف الآخر بعد حرب الجمل.
__________________
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).