إضاءات تدبریة

طرق الاستفادة من النعم الإلهية

في جملة آيات من سورة النحل نجد في ختام كل اية بيان هدفٍ سامٍ من اهداف خِلقة الانسان،  في الآية الحادية عشر: {لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}، والآية التي بعدها {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، و{لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.

في البدء لابد من بيان بصيرتين:

البصيرة الأولى: كلمة “لعلَّ” في الآيات القرآنية تدل على الهدف، لان الاهداف العليا ليس بالضرورة تتحقها بأي وسيلة، إنما هناك رجاء تحققها، وذلك ان على الانسان ان يسعى، أما هل ينتهي السعي الى النتيجة المرجوة ام لا، فهذا امر آخر يقول الشاعر:

على المرء ان يسعى بمقدار جهده

وليس عليه ان يكون موفقا

وإرادة الرب العليا هي التي تقرر النهايات، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، اي الصيام وسيلة للتقوى، وبالنسبة للحج يقول ــ تعالى ــ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، يعني ان الحجّ وسيلة للتقوى، اما تحقق التقوى من عدمها فهذا امر يتصل بارادة الله، فالمؤمن يهيئ الوسائل، والرب برحمته وفضله يعطي المنائح، وليس الانسان الذي يحقق الامور بيده وعمله.

 البصيرة الثانية: الكثير من الناس يقرأون آيات القرآن الكريم وكأنها لا تعنيهم، كما يقول الشاعر:

ولقد امر على فلان يسبني

فمررت ثم قلت لا يعنيني

وهذه الحالة من أصعب مراحل الوصول الى الحقيقة، ولكن إذا عوّد الانسان نفسه ان يستوحي من الآيات الكريمة، والروايات الشريفة، بصائر ثم يأولها على نفسه، هنا سيخطو مرحلةً الى الأمام في فهم الآيات القرآنية.

والتأويل هو تطبيق الآيات في مناسبة معينة، او على فلان من الناس، فمثلا قوله ـ تعالى ـ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، فالذي قضى نحبه حمزة عليه السلام، و “من ينتظر” أمير المؤمنين عليه السلام، فالآية نزلت في هاتين الشخصتَين العظيمتين، لكن هذا لا يعني أن لا يتم تأويل الآية في غيرهم، ولذا حينما يأوّل الانسان الآية يطبقها أولا على نفسه وعلى الآخرين.

محركات العقل الخمسة

الأهداف الخمسة الآتية، من الآية الحادية عشر الى الآية الخامسة عشر، هي التي توصل الإنسان الى مرحلة نماء العقل، ومن ثم معرفة الغاية التي لاجلها يجب ان يفكّر الفرد ويتعقّل:

  1. التفكّر:

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

  • التعقّل:

 {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

  • التذكّر:

 {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.

  • الشكر:

 {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.

  • الاهتداء:

{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

التفكّر دليل الوعي

ففي الآية الأولى يقول ــ تعالى ــ: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} حينما يذهب الانسان الى البساتين والحقول يرى الاشجار اليانعة، والثمار الطيبة، لكن البعض لا يتفكّر فيها.

أن يفكّر الإنسان يعني ان يحرّك المعلومات ويثيرها، وذلك من خلال جمعها، والتي بدورها ستفضي الى أمر معين، والانسان يمتلك آلاف المعلومات والاستفادة منها يكمن بالتفكر وربط بعضها ببعض

ولنضرب مثالا من حياتنا الواقعية اليوم؛ لو نظرنا الى السيارة وما تحمله من أجهزة وبراغي، وامور مختلفة، فكل شيء فيها وضع لغرض معين يشترك مع آخر فيه، ومن حيث المجموع فإن هدف ما تتألف منه السيارة، من محرك، و(تاير) وراديتر، وبقية الامور الأخرى، هدفها حركة السيارة.

ونعلم بأن مصنع السيارات جيد، وان المشرف على صنع السيارة رجل حكيم، لانه وضع كل جزء في مكانه بحيث يخدم بقية الاجزاء الأخرى، وفي النتيجة ان السيارة تسير وتتحرك، الأمر ذاته فيما يرتبط بالحياة بشكل عام، فكل شيء فيها وضع لغرض معين ويتكامل مع الأمور الأخرى لتأديه هدف واحد.

حين تدخل الى بستان تجد الانواع المختلفة من الفواكه؛ الرمان، والعنب، والتفاح، والأناناس، وبقية الاصناف المتنوعة من الفواكه، ولكل نوع من الفاكهة فوائد مختلفة، فالبرتقال يحتوي على فيتامين سي، والعرموط يفيد للسكري، وكذا الامر في بقية الفواكه، فالجسم بحاجة الى ما تحويه الفواكه من عناصرَ غذائية وصحية، ومن خلال النظر الى الفواكه ومعرفة فائدتها نعرف ان الله خلقها لحكمة ولهدف.

فإذا كان للفواكه هدف من خلقها، فالبتأكد للإنسان هدف سامٍ في هذه الحياة، وهو ان يفكّر وان يعمل الصالحات.

وأن يفكّر الإنسان يعني ان يحرّك المعلومات ويثيرها، وذلك من خلال جمعها، والتي بدورها  ستفضي الى أمر معين، والانسان يمتلك آلاف المعلومات والاستفادة منها يكمن بالتفكر وربط بعضها ببعض.

لذلك جاء في الحديث الشريف، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إذا رأيت المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يُلّقى الحكمة”، فالصمت دليل التفكير، فمن يريد ان يفكّر لابد ان يتعلم الصمت.

التعقّل

بعد أن يفكر الانسان ويجمع المعلومات هنا تأتي مرحلة وضع المعلومات في صندوق خاص وهذه العلمية تسمى التعقل، والعقل هو الذي يحفظ المعلومات، و”العقل من العقال والنفس كأخبث الدواب إن لم تعقلها حارت”.

التذكّر

العقل يفكر بأن يصل الى نتيجة معنية من خلال المعلومات وربطها ببعضها البعض، فيحنما يصل الانسان الى نتيجة بأن كل المخلوقات من اصغر ذرّة الى اكبر مجرة إنما خُقلت لهدف، وانها تتكامل وتحقّق هدفا اكبر، فإنه حينها يعرف ان الهدف من خلقه عظيم، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

وهذه المرحلة هي مرحلة التذكر، فخلالها يتم ربط المعلومات التي حصل عليها الفرد عن طريق التفكّر والتعقّل.

الشكر

الشكر هو الاعتراف بالنعمة؛ جاءني أحد الاشخاص وقال: أعاني من الكآبة! فقلت له: اشكر نعم الله.

فقال: كيف اشكرها؟

قلت: تذكّر كل نعمة من نعم الله عليك واشكر الباري عليها.

فجاء بعد فترة، وقال: شكرت كل النعم!

قلت له: إذا شكرت الله على نعمة العين سنة كاملة فلن توفي حقّ تلك النعمة، فلو سألنا طبيب العيون عن العين، من الاعصاب، الى الشبكية، الى البؤبؤة وغيرها الكثير. والانسان إنما يعيش الكآبة لانه لا يعرف نعم الله عليه، وحين يفكر الفرد بمشاكله يدعوه ذلك الى الكآبة، لكن حين ينظر الى مشاكل الآخرين تهون عليه مشاكله.

إذا عوّد الانسان نفسه ان يستوحي من الآيات الكريمة، والروايات الشريفة، بصائر ثم يأولها على نفسه، هنا سيخطو مرحلةً الى الأمام في فهم الآيات القرآنية

والمرحلة التالية لشكر النعمة هي العمل، فما دام ان الله أنعم على الانسان بشتى النعم، هنا لابد ان يفهم عظمة النعمة اولا، ومن ثم يشكر النعمة ثانيا بلسانه، وثالثا هي مرحلة العمل بالنعمة فمثلا شكر نعمة العين بالعمل، تقديم الخدمة لشخص آخر لا عين له، وشكر نعمة المال العطاء لمن لا مال له، وهكذا في بقية النعم الأخرى.

{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فتلك الجبال الشاهقة هي التي توطد الأرض أن تميد بالإنسان، إذاً النتيجة النهائية للتفكر، والتعقل، والتذكر، والشكر، هو الهداية، وهي مرحلة الوصول الى القمة، وفي هذه المرحلة لابد ان يحافظ الانسان على هذه النعمة الكبيرة التي هي غاية كل نعم الله على الانسان.

____________

(مقتبس من درس التفسير الموضوعي لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا