ثقافة رسالية

جسد وشخصيتان

هل لدى الإنسان شخصية ثانية؟

يبدو السؤال مستغرباً إلا أن نظرة واقعية تكشف أن للإنسان شخصيتين:

شخصيته الفعلية كما هي عليه الآن، وشخصيته المكنوزة في داخله المضمورة في أعماقه والتي يمكن أن يكون عليها في المستقبل.

ولو دققنا النظر في الفارق لوجدنا أن التقييم لشخص ما لا يكون دائماً على أساس شخصيته الفعلية، وإنما ينظر إليه أحياناً إلى ما سيصل إليه في المستقبل، بناء على ما يملك من إمكانات و استعدادت

إن الأب عندما يحاسب ولده، لا يحاسبه دوماً كما هو الآن، وإنما يحاسبه أحياناً لما يمكن أن يكون عليه إذا استخدم طاقاته، فهو يحاسبه على فشله لأنه قادر على النجاح، ومؤهل للدراسات العليا في أعلى مستويات الدراسة، ولكنه لا يسعى لذلك.

ولذلك فلا بد أن تطرح على نفسك السؤال التالي: هل شخصيتي الفعلية بمستوى شخصيتي الأخرى التي أستطيع الوصول إليها؟ وما هي الإمكانات والطاقات الكامنة التي زودني الله تعالى بها ولم أستخدمها؟

إن كل إنسان كائن عملاق، وبإمكانه أن يبلغ أرفع مستويات الثقافة، والزعامة، والنجاح، إذا استطاع أن يغير واقعه الداخلي واستفاد من مواهبه والموارد الطبيعية التي وفرها الله لخدمته على أحسن وجه، فالإنسان قادر على إنجاز ما يريد، بشرط أن يؤمن بقدرته على ذلك أولاً، ثم يستخدم الطاقات التي وهبها الله له، والمثل الإنجليزي يقول: إنهم قادرون لأنهم يعتقدون بأنهم قادرون.

إن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ولذلك نرى أن البعض قد فرض شخصيته على عدوه، لا لقوة عضلاته وكثرة معداته، وإنما لقوة شخصيته الداخلية

فالطائر يعتقد أنه قادر على الطيران، ولذلك فإنه يطير وقد اعتقد الإنسان في يوم من الأيام بأنه سوف يكون قادراً على الطيران، وفعلاً فإنه طار أفضل مما يطير الطائر، بل أقوى منه وأسرع.

لقد جاء في حديث شريف عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: له قوله: “من أصلح جوانيه أصلح الله برانيه”، فلو أن أحدنا اعتقد بأنه قادر على عمل ما، أي صاغ شخصيته الداخلية على ذلك لأنجز ما يريد، ووصل إلى مراده، يقول أمير المؤمنين :”وَ تَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الْأَكْبَر”.

إن كل ما تعتقد بقدرتك على إنجازه ستكون قادراً عليه؛ ألا ترى كيف أن هنالك جدل كبير بين بعض علماء علم الاجتماع حول من يصنع من؟ هل الرئاسة تصنع الرئيس؟ أم أن الرئيس هو الذي يصنع الرئاسة؟ وهناك أمثلة على أن الرئاسة هي التي تصنع الرئيس، بمعنى أن من يوضع في موقع الرئاسة فهو يصبح رئيساً، لأنه يتصور نفسه رئيساً، فيصدق الصورة بالعمل فيكون رئيساً.

وهناك أفراد عاديون جداً أصبحوا رؤساء دول، لأنهم آمنوا بأنهم قادرون على أن يصبحوا رؤساء دول.

وكم من الرؤساء سقطوا، لأنهم لم يؤمنوا بقدراتهم مثل من يصبح رئيساً لأن أباه كان رئيساً فلم يحسن التصرف كرئيس فيسقط، وربما يُسقط معه أمماً وشعوباً.

إن كل إنسان كائن عملاق، وبإمكانه أن يبلغ أرفع مستويات الثقافة، والزعامة، والنجاح، إذا استطاع أن يغير واقعه الداخلي واستفاد من مواهبه والموارد الطبيعية التي وفرها الله لخدمته على أحسن وجه

إنك تؤدي الدور الذي تشعر بأنك قادر على تأديته من هنا يجب عليك التوجه لداخلك الذي يمتلئ بالطاقات فتكون شخصيتك الحقيقية، لا الشخصية الكائنة الآن وهذا يصدق بحق الأفراد وبحق الجماعات أيضاً.

يقول ربنا تعالى : {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِمْ}، وهذه دعوة قرآنية للناس للبحث عن مكنونات نفوسهم الداخلية التي منها تتكون الشخصية الحقيقية، فإذا صلحت شخصية الإنسان الداخلية صلح فيه كل شيء.

إن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ولذلك نرى أن البعض قد فرض شخصيته على عدوه، لا لقوة عضلاته وكثرة معداته، وإنما لقوة شخصيته الداخلية، وقد ترى شخصية ما تبرز على الساحة في أحلك الظروف وفي وسط الظلماء عندما لا يرى فيها الآخرون بصيصاً من الأمل، ولأن هذه الشخصية تتمتع بنور داخلي إلى ما ينبغي أن تكون عليه قوياً، ولذلك تترك بصماتها على وجه التاريخ، وتظل الأجيال تلهج باسمها لفترة طويلة من الزمن، من دون أن يكون صاحبها نبياً أو مرسلاً أو معصوماً، بل إنساناً كغيره، لكنه قد صنع من دواخله شخصية تتحرك كالسراج وتنتهز الفرص وتغير وتبدل بخلاف الذين تأتيهم الفرص وعندهم الطاقات والقدرات على انتهازها إلا أنهم في داخلهم صغار، فتذهب إمكاناتهم ومواهبهم سدى وتضيع هدراً.

______________________

(مقتبس من كتاب “كيف تبني شخصيتك” لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا