“جاك الذيب، جاك الواوي”! مثل عراقي كناية عن إثارة مشاعر الخوف المزيفة لمن يُراد تثبط عزيمته لعمل يعتزم القيام به، وأنه ربما يكون مثل ذلك المربي للاغنام والدجاج معرضاً دائماً لهجمات الذئب، وابن آوى (واوي باللهجة العراقية)، ومثل هذه الإثارة أراها متظافرة على مواقع التواصل الاجتماعي موجهة الى شيعة العراق تحديداً هذه الأيام بعد انهيار نظام حزب البعث في سوريا برئاسة بشار الأسد، بدعوى أن الهدف القادم؛ العراق، وتحديداً شيعة العراق، و بدعوى أيضاً؛ أن نظام الأسد كان من قلاع المقاومة ضد المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط.
شيعة العراق أهل النخوة والحمية والإيمان والكرم والشجاعة، عرفتهم الانتفاضات على الظلم والطغيان عبر التاريخ، كما عرفهم الطغاة بتضحياتهم المخيفة حتى الرمق الأخير، كل هذا من أجل الدفاع عن قيم السماء والكرامة الإنسانية، مستوحين هذا الدرس البليغ من واقعة الطف، فقد فهموا جيداً قضية الامام الحسين العابرة للسياسة والسلطة وقوة السلاح والمال، ولذا فان هذه الموجة أراها تتوقف عند حقائق عدّة منها:
أولاً: إن الطرف المقابل في ساحة المواجهة يُدرك قبل غيره من يقاتل؟ ومن هو عدوه؟ ولذا فهو ما يزال على قيد الحياة، فلا يتورط مع شعب يستند على إرث حضاري وثقافي يعود الى أربعة عشر قرناً من الزمن، وما حصل عام 2016 في المناطق التي احتلها عصابات داعش لحوالي ثلث الأراضي العراقية، أثبت للعالم، وتحديداً للمعنيين في المنطقة ان شيعة العراق يقاتلون بدوافع ذاتية تمنحهم قوة قاهرة غير عادية، من الصعب مواجهتها.
ثانياً: وجود قيادة لا مثيل لها بين طوائف المسلمين، وربما في العالم، تربط بين الجانب المادي والجانب المعنوي في حياة الانسان، وتصوغ قراراتها من وحي تجارب التاريخ، ومن الواقع الحاضر مع أخذها بنظر الاعتبار العواقب والنتائج، ثم التطلع الى المستقبل، وبكلمة؛ فإن المرجعية الدينية لم تنطلق في مسيرة؛ تحررية كانت، او تنموية، او نهضوية، عبر تاريخها، إلا وضمنت بنسبة كبيرة، النجاح والانتصار، وعدم إلحاق الخسارة والضرر بالناس، وإن كانت الخسارة في اللحظة الراهنة، فان الانتصار يكون في قادم الأيام، كما حصل مع النضال الطويل لمقارعة نظام حزب البعث في العراق.
ثالثاً: الوعي الجماهيري نحو التنمية والبناء بعد تجربة سنين طوال مع القلق القاتل وعدم الاستقرار بفعل أدوات الموت الإرهابية التي تقاطرت علينا من كل مكان لأننا تسببنا بالإطاحة بزعيم يحبه الكثير من حولنا، وحتى الآن من الصعب تحديد عدد الشهداء من المواطنين الأبرياء في الأسواق والشوارع بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة.
هذا الوعي الذي واجه الأزمة الأمنية ببسالة في السنوات الماضية، يواجه اليوم الأزمة السياسية، وما يفعله الحكام بهذا البلد والشعب من مفاسد تجعلهم يفكرون بشكل مختلف لإدارة البلد، مما يجعل شيعة العراق يلتزمون خيار التنمية والتطوير والتغيير في طريق الإصلاح على الأصعدة كافة، لإيمانهم بأن القوة الاقتصادية والعلمية والثقافية والتماسك الاجتماعي هي القوة الحقيقية لأي تهديد جديد، أكثر من خطوة تؤدي الى هدر قدراتهم و تفتيت كيانهم، ويجعلهم هدفاً سهلاً في أي وقت يشاء المتربصون توجيه ضربة لهم.
والحقيقة الرابعة التي أرها الأهم؛ حظوة شيعة العراق بتوازن قوى استثنائي ورائع على الصعيد الداخلي والخارجي، ففي الداخل ثمة توازن يُعتد به بين قوة المرجعية الدينية المحترمة في رأيها، والمؤثرة في مواقفها، وفي نفس الوقت؛ غير المحسوبة على الكيان السياسي للدولة العراقية الذي يغلب عليه الطابع الشيعي، وبين القوى السياسية الحاكمة بشكل عام، أما على الصعيد الخارجي، فنحن نعيش في ظل توازن قوى بين ايران والولايات المتحدة، ومعها حلفائها في المنطقة، فالجميع متسالمون على إبقاء العراق بعيداً عن نار الحرب التي لن تحفظ لأحد مصلحة فيه حال اندلاعها، لأن العراق كما تؤكد القرائن والدلائل ليس العراق المنتهك أيام الإرهاب التكفيري، ثم الإرهاب الداعشي، فقد تغيرت أمور كثيرة في العراق، لاسيما على الصعيد الأمني والعسكري.
رغم كل هذا يبقى العراق –شيعته- في عين العاصفة، ويرى البعض أن عليه الاستمرار في ضخ الدماء لإبقاء جذوة الصراع السياسي متقدة في الشرق الأوسط، تحت عناوين وشعارات عدّة، لاسيما تلك المثيرة للمشاعر الدينية، وأن “المراقد المقدسة في خطر”، كما كان هذا النوع من الإثارة على أشدّها أيام الإرهاب الداعشي، بيد أن هذه الإثارة لن تكون ذات معنى في مقابل محورية القيم المقدسة قبل الأبنية المشيّدة، فهي قابلة لإعادة البناء، بينما القيم والإيمان بها الكامنة في النفوس هي التي يجب ان تصان وتحفظ بشدّة، وهذا ما نعمل عليه حالياً في العراق، وتحديداً في كربلاء المقدسة من تكريس للدين والأخلاق مما يجعل البلد عصيّاً على التهديد من أي قوة في العالم.