لابد أن نقرّ أولا بأن كل ما توصلت إليه البشرية من منتجات صناعية ومكتشفات ومخترعات هائلة، كله كان ولا يزال وسيبقى قائما على عملية التجريب، ومن هذه الحقيقة المهمة، تكتسب مراكز البحوث والمختبرات العالمية العملاقة أهميتها، حيث يتم رصد مليارات الدولارات لمثل هذه المراكز والمختبرات، التي تواصل بحثوها العملاقة على أيدي علماء ومتدربين ماهرين تحت أيدي الخبراء مهمتهم مواصلة التجريب تجربة بعد أخرى حتى يتم الوصول إلى الهدف المنشود.
وقد قرأت ذات مرة على لسان أحد المترجمين الروس أنه قال ذات مرة: قمتُ بعمل دائرة كهربائية لأحد الأجهزة التي تجمع بين الميكانيك والإلكترون، وبقيت أعمل على هذه الدائرة الكهرباء تجربة بعد أخرى، فالتجربة الأولى فشلت والثانية والثالثة والرابعة… وفشلت التجربة العشرين والثلاثين ولم أترك المحاولة والتجريب، إلى أن بلغت التجربة رقم 77 واستطعت إتمام عملي، وحصلت على الثناء وتقدمت في عملي بشكل كبير.
في الواقع مثل هذا الإصرار لا يمكن أن يقف بوجهه الفشل، بل سيكون مصير الفشل الهزيمة، وهذا ما ينبغي أن يتحلى به الشاب العراقي، فإذا توفر له مثل هذا الإصرار وهذه المثابرة، وهذا التكرار المستمر للتجارب، فإن النجاح سوف يكون حليفه بلا أدنى ريب.
السؤال المهم في موضوعنا هذا، كم من الشبان العراقيين يتحلون بهذه الروحية العملاقة، روحية التجريب الذي لا يكف عن المحاولة والتكرار حتى تحقيق النجاح؟
يعاني شبابنا العراقيون من مشكلة ندرة المعاهد التدريبية، أو عدم وجودها أصلا، وهذه مشكلة كبيرة تقف أمام الشاب العراقي
بالطبع نحن لا نبحث عن النسب بين من يتوفر فيه هذا الشرط وبين نقيضه، وعندما تكلمنا عن قصة الخبير الروسي وتجاربه التي وصلت إلى التجربة سبعة وسبعين مرة، وحقق بعدها النجاح، فإن القصد من ذلك أن يعرف الشاب العراق أهمية التجريب، وتكرار المحاولات، واعتماد خيارات وبدائل كثيرة وصولا إلى النتيجة المطلوبة.
مثل هذه الروحية التجريبية للشباب العراقي مطلوب ومهمة جدا، بل هي شرط أساس لكل شاب يريد أن ينجح في مشواره العملي، وهذا لا ينطبق على مهنة واحدة أو مجال معين، بل جميع المشاريع صناعية أو تجارية أو تسويقية أو علمية أو سواها، كلها تحتاج إلى التجريب الذي لا يكل ولا يمل ولا يُهزم من التجربة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة ولا الخمسين ولا حتى السبعين، وليكن شعار الشاب التجريب طريقنا نحو النجاح، على أن يكون الشاب مؤمنا حقا بنفسه و واثقا من قدراته، ومطورا لخبراته ومؤهلاته، وعارفا بكيفية استخدام أدواته البحثية بعد الاطلاع والتدريب والمران المتواصل في معاهد متمرة وعلى أيدي خبراء مشهود لهم بالقدرات والخبرات الكبيرة.
بالطبع يعاني شبابنا العراقيون من مشكلة ندرة المعاهد التدريبية، أو عدم وجودها أصلا، وهذه مشكلة كبيرة تقف أمام الشاب العراقي، الذي يحتاج اليوم من الدولة أن تنشئ هذه المراكز والمعاهد التي يمكنها تقديم العون والمساعدة العلمية والعملية لشبابنا حتى يتمسكوا بالفرص العلمية الرصينة ويؤمنوا بقضية التجريب ويطبقوه في مسيرتهم ومشاريعهم.
كذلك مطلوب من القطاع الخاص أن يقوم بدوره في هذا المجال، بعد الحكومة والدولة طبعا، فالقطاع الخاص يمكنه توفير الخبرات والقدرات المهمة للشباب، ويمكن لأصحاب الأموال والمشاريع الكبيرة بناء مثل هذه المراكز البحثية والمختبرية والمعاهد التدريبية لغرض تطوير مهارات الشباب، علما أن مثل هذه المشاريع سوف تعود على القطاع الخاص بموارد كبيرة، مثلما تربح الدولة مليارات الدولارات من مساعدة الشباب على تحصيل الخبرات العلمية.
على حد علمنا، لا يوجد في العراق مثل هذه المراكز التي تطور مهارات الشباب على مستوى واسع، ولا نقصد الحالات الفردية البسيطة التي لا تمثل جهد الدولة بأكملها، المقصود وضع خطط لإنشاء مثل هذه المراكز والمختبرات التجريبية والمعاهد التطويرية، وفق منهج حكومي مدروس علميا وعمليا، وعدم ترك آلاف الشباب من الخريجين وغيرهم تحت رحمة البطالة ومقاهي قتل الفراغ التي أخذت من أعمار شبابنا الكثير.