لقد تأنيت كثيرا قبل الشروع بكتابة هذا المقال لأني، و بصراحة أشعر بالخجل كلما تذكرت أني سأكتب عن السيدة زينب، تلك السيدة التي خطت لها الأقلام مئات من المقالات والقصائد والقصص ولا يزال الحبر يتجمد بمجرد ان يذكر اسمها.
ماذا اكتب؟ و ايّة حادثة أصف؟ لكن عندما وقعت عيني على تلك الرواية التي تقول بان الإمام علي عليه السلام اشترط على عبد الله بن جعفر وقت خطبته للسيدة زينب عليها السلام ان يدعها تذهب في قافلة سيد الاحرار الى كربلاء الشهادة ارتأيت ان اكتب.
هل كان من المفترض على زينب أن تعاني، وهي تشاهد كل هذه المشاهد القاسية من الدماء النازفة والشرايين المقطعة والاوداج المذبوحة؟
هل كتب عليها القتال؟
من المفترض أن تكون عقيلة الطالبيين، بعد الواقعة، محطة للعيون الوضيعة والنظرات الدنيئة وهي واقفة في قصر الإمارة او في الشام؟
كلا، حتما لم يكن الأمر كذلك، لانه يكمن خلف شرط الأمير علي عليه السلام حكمة وتدبير لاسيما بعد ان أتى بها الإمام الحسين عليه السلام معه إلى كربلاء المقدسة.
قلاع الشر كانت تنوي هتك حرمات رسول الله، و اذلال بيت الرسالة، والاعظم كان القصر الأموي يظن بمقتل الحسين ستُسكت الافواه الحقّة، وستعلو كلمة الباطل، ولكن ابى الله الا ان يتم نوره.
أجل بعد أن سقط الإمام الحسين عليه السلام على الرمضاء صريعا، غارقا في دمائه الزكية بدأ الدور الحقيقي والمهم لزينب.
فبدل أن تسقط راية الحسين على الارض التقطتها زينب وحملتها رغم الازمة المضنية وشدة البلية وجبروت العدو.
لشد ما كانت السيدة الحوراء حريصة على إتمام تلك المهمة بالغة العظمة. فأول ما قامت به وهي الوحيدة بين الاعداء، وحولها الأطفال والنساء وشاب عليل، ان حافظت عليهم جميعا، ويسجل التاريخ انها حمت إمام زمانها السجاد عليه السلام ثلاث مرات، فالأولى عندما حمل سيفه لنصرة ابيه وهو يجر بسيفه لا يقوى على الحراك، فمنعته من القتال للمحافظة على نسل الرسول، والثانية عند هجوم الجيش المبتذل على الخيام، والثالثة عندما اراد يزيد قتله.
وان شار هذا المسلك الى شيء فإنه يشير الى بلوغها أقصى درجات المعرفة لله ورسوله ولحجته.
وبعد ذلك كانت مهمتها المواجهة لا بصليل السيف فأنها امرأة، والقتال ساقط عنها، ولكن بالفكر واعلام الأمة، ورفع الغبار عن الأعين المخدوعة بالسلطة الأموية المتنكرة للاسلام.
ففي الكوفة لما دخلن السبايا ومع ذلك العدد الكبير من الحضور قامت حاملة الراية، واسكتت تلك الجلبة، فارتد على اثرها الانفاس، وسكنت الاجراس، وقامت تخاطب ذلك المجتمع المخدوع بلسانها اللذق كأنها علي بن أبي طالب عليه السلام، فاتخذت من التأنيب والتوبيخ طريقا لايقاظ اهل الكوفة من حفرة التنكر و الخداع اذ قالت :{أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ وَالْغَدْرِ وَالْخَذْلِ أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}.
فحركت بكلماتها مشاعرهم، وازاحت عن القضية الغبار، فلقد سعى الإعلام الأموي من ان يعتقد الناس أن تلك السبايا خوارج وليس تلك المعركة الا لنصرة الاسلام فلم تلبث ان كشفت اللثام للناس وفضحت سوء ما انطوت عليه سريرة الدولة الحاكمة وجيشها المستبد :{وَأَنَّى تَرْحَضُونَ قُتِلَ سَلِيلُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ، وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَلَاذُ حَرْبِكُمْ وَمَعَاذُ حِزْبِكُمْ وَمَقَرُّ سِلْمِكُمْ وَآسِي كَلْمِكُمْ وَمَفْزَعُ نَازِلَتِكُمْ وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُقَاتَلَتِكُمْ وَمَدَرَةُ حُجَجِكُمْ}.
وينقل حذيم بن شريك الأسدي وقت انهت السيدة خطبتها، أحدثت تغيير جلي اذ يقول: {فَرَأَيْتُ النَّاسَ حَيَارَى قَدْ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ شَيْخٌ فِي جَانِبِي يَبْكِي، وَقَدِ اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِالْبُكَاءِ، وَيَدُهُ مَرْفُوعَةٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمِّي كُهُولُهُمْ خَيْرُ كُهُولٍ، وَنِسَاؤُهُمْ خَيْرُ نِسَاءٍ، وَشَبَابُهُمْ خَيْرُ شَبَابٍ، وَنَسْلُهُمْ نَسْلٌ كَرِيمٌ وَفَضْلُهُمْ فَضْلٌ عَظِيمٌ}.
إنّ الثبات والاقدام في المواقف الشديدة يتطلب بسالة وشجاعة، وهذا فعلا ما رأيناه إبان دخولها صلوات الله عليها على قعر المتعسف والمسرف في بغيه يزيد. كان المجتمع الشامي معروف بغلوه بالفسق، وعداءه الشديد لآل البيت عليهم السلام.
وكان المجلس اليزيدي زاخراً ومزدحماً بالشخصيات المهمة، لذا وكانتقلم واستخفاف منه؛ أظهر نشوة سعادته قائلا :
{ليتَ أشياخي ببـدرٍ شَهِـدوا جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ فأهَلَّـوا واستَهـلُّـوا فَرَحـاً ثمّ قالـوا: يا يزيـدُ لا تُشَلّْ} .
فلو ان الحوراء عليها السلام سكتت في ذلك الوقت، وفي تلك اللحظة لكانت المشروعية لصالح يزيد، فلم تلبث أن ابتدأت حديثها بحمد الله والصلاة على رسوله الكريم ثم وجهت كلاماً كان كالنبال التي تنفذ الى لوحة التصويب بعناية بالغة، وكالسيف الذي قاتل به أبطال كربلاء المقدسة حتى لكأنها ردت بارجوزة أبيها عليه السلام :
واني لا جو ان أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى صيتها عند الهزائز
ثم قالت : {صدق الله} حيث يقول: {ثُمّ كانَ عاقبةَ الذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بآياتِ اللهِ وكانُوا بها يَستهزِئُون، أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة ؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده، فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا} أنَسِيتَ قول الله تعالى: {ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين}، فاخرست اللسان الآثم وقلبت مجلسه عليه.
إنّ التاريخ يذكر أن السيدة زينب عليها السلام لم تتوقف عند هذا الحد من الجهاد ومقارعة الاستبداد، بل نظمت المجالس، وحلقات المعرفة، وعرّفت من خلالها المجتمع على مظلومية اهل البيت ،عليهم السلام، واحقية طريقهم ومسلكهم، فلم ترَ السلطة الجائرة منفذا لاسكات صوتها، فضيقوا الخناق عليها، ودسوا لها السم غدرا، لينتشلوا روحها المقاومة، والثائرة ليقتلوا معها الحق كما اعتقدوا، بَيد ان صداها قرر له الخلود ليومنا هذا فصارت ملهمة لطلاب الحقيقة، الهادفون لاخراس تخرصات الفتن والباطل.