{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. (سورة الحديد).
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في خطبه له: “أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة”.
لا ريب أن أهم معرفة يحتاجها الانسان في هذه الحياة؛ هي معرفة خالقه؛ فأي علم دون ذلك فهو فضل، أما العلم الحقيقي الذي ينفع الانسان في الدنيا والآخرة، والذي تتفرّع عنه سائر العلوم فهو معرفة الله –تبارك وتعالى-، يقول الامام الصادق، عليه السلام: “وَجَدتُ علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك”.
لكن السؤال العريض الذي كان ينتاب البشرية منذ القدم هو: كيف يمكن معرفة الله؟ ما هو الطريق الى معرفته؟ وهل يمكن معرفة كنههُ –تعالى-؟ واذا كان العلم هو الذي يحصل بالتجربة، ومن ثم بالحواس الخمس؛ فكيف يمكن الحصول على علم ما لم يُدرك بالحواس؟!
هذه التساؤلات أدت بالكثير من البشر الى الوقوع في انحرافات عيدة، ابتداءً من إنكار وجوده –جلّ وعلا-، وانتهاءً بظهور مذاهب فكرية كالمُشبّهة، والمعطلة، والقائلة بوحدة الوجود والموجود.
وقد انقسمت المدارس الفكرية في تعاطيها مع هذه القضية المعرفية الهامة الى ثلاث مدارس أساس:
المدرسة الأولى: المدرسة المشائية
اعتمدت هذه المدرسة – بزعمها- العقل طريقاً لهذه المعرفة، فكل شيء يخضع عندها للقواعد العقلية، والمنطقية، والفلسفية، ولا يهمنا أصل هذه المدرسة ونشأتها و روادها إلا أن ما يهمنا –هنا- هو أن هذه المدرسة وقعت في أخطاء منهجية كبيرة ونتائج معرفية كارثية.
هذه المدرسة تُعد أصل واساس مذاهب الإلحاد اليوم، حيث إنها وضعت جملة من القواعد الفلسفية والمنطقية، وحاولت تطبيق هذه المناهج في كل المعارف وفقاً للقاعدة المعروفة لديهم؛ “أن الفلسفة أساس المعرفة”.
العقل من دون نور الوحي لا يمكنه كشف الحقائق الغيبية، فدائرة الغيب بالنسبة للإنسان غيب، ولا يمكن كشف الغيب إلا بطريقة واحدة فقط وهي؛ الوحي نفسه
وقد حاول بعض فلاسفة المسلمين ان يوفقوا بين هذه المدرسة وبين ما جاء به الوحي عن السماء من معارف في مجالات الخلق، والحياة، والممات والبعث، إلا ان النتائج –كما اسلفنا- كانت كارثية، حيث اضطروا في كثير من الأحيان الى تأويل صريح الآيات القرآنية، و ردّ نصوص الروايات الصحيحة والصريحة لإثبات بعض النظريات الفلسفية التي تعد عندهم من أمهات النظريات كتطبيقهم قاعدة “الواحد لا يصدر منه إلا واحد”.
والجدير بالذكر إن هذه المدرسة لم تفشل في الكشف عن الغيب وتفسيره وتأويله فحسب؛ بل فشلت فشلاً ذريعاً في تفسير الحياة المادية ايضاً، فلم يستطع ارسطوطاليس – مثلاً- أو غيره من الفلاسفة واتباعهم ان يدافعوا عن نظرية واحدة من نظرياتهم المرتبطة بالطبيعة، وبقيت نظرية دارون، الوحيدة التي يتشبثون بها بقاعدة “الغريق يتشبث بالقشة”، لكنها هي الأخرى نظرية لايمكن اثباتها من خلال القواعد التي وضعهوها هم، فهي مجرد دعوى من دون دليل، وأقرب شاهد مادي على بطلان هذه النظرية (النشوء والارتقاء) هو ما وجدوه في تطور سمكة قبل ألف عام، وأنى لهم إثبات ذلك!
المدرسة الثانية: المدرسة الإشراقية
وهذه المدرسة ادّعت أن الكشف هو الطريق لهذه المعارف، فلا يمكن لاحد ان يعرف ربه إلا اذا اتحد معه، او حلّ فيه! ومن ثمّ جعلوا المعرفة تجربة شخصية.
وهذه هي المدارس التي تشكلت اليوم على صورة المدارس الصوفية والعرفانية، وهذه المدارس تعتمد الرياضات النفسية طريقاً لتصفية النفس ليتم الانتقال من مرحلة الشريعة الى “الطريقة” للوصول الى الحقيقة، كما يحلو لهم تسميتها.
والفرق بين هذه المدرسة وسابقتها؛ أنها لا تقيم لك الأدلة والبراهين –عكس المدرسة المشائية- في إثبات نظرياتها، بل هي تكتفي بإنكار معرفة غيرها، لأن الغير لم يخض هذه التجربة التي خاضوها!
وبالرغم من أن بعض اتباع هذه المدرسة –من المسلمين- حاولوا المزج بينها وبين الاستدلال العقلي والفلسفي، إلا ان هذه المدرسة –هي الأخرى- وصلت الى نظريات شركية كبيرة، ولعل أهمها؛ نظرية الفيض، ونظرية وحدة الوجود والموجود.
المدرسة الثالثة: مدرسة الوحي
وهذه المدرسة اعتمدت الوحي كمصدر وحيد لمعرفة الحقائق، ولم تنكر هذه المدرسة دور العقل –كما يرميها بعض أصحاب المدارس الأخرى- إنما تؤطر دور العقل في إطاره الحقيقي، فالعقل من دون نور الوحي لا يمكنه كشف الحقائق الغيبية، فدائرة الغيب بالنسبة للإنسان غيب، ولا يمكن كشف الغيب إلا بطريقة واحدة فقط وهي؛ الوحي نفسه، فما أخبر به الوحي عن الغيب –اذا كان بالشروط المقبولة عقلاً- نصدّقه، وإلا فلا يمكن الأخذ بأيّ شيء صدر عن غير هذا المصدر.
لا ريب أن أهم معرفة يحتاجها الانسان في هذه الحياة؛ هي معرفة خالقه؛ فأي علم دون ذلك فهو فضل، أما العلم الحقيقي الذي ينفع الانسان في الدنيا والآخرة، والذي تتفرّع عنه سائر العلوم فهو معرفة الله تبارك وتعالى
تُرى؛ هل من أحد يستطيع ان يخبر عن الجنة والنار ما لم يصله عنهما روايات وآيات مباركة تنبئ عن ذلك الغيب؟ فاذا كان الامر كذلك؛ فكيف يمكن ان يخبرنا هذا الشخص عن مبدأ الخلق والخالق وصفاته وغير ذلك مما لم يشاهده؟!
وتبعاً لهذه المدارس، اختلف المفسرون في تفسير هذ الآية المباركة، وهي الآية الثالثة من سورة الحديد، فتجد منهم من شرّق ومنهم من غرّب بعيداً، وحيث ان هذه الآية من آيات التوحيد المهمة جداً، وهي تنفي الكثير من الفلسفات الشركية عن الله –تعالى- اضطر أصحاب هذه المدارس تأويل الآية في تفسيرهم بما لا يتناسب مع ظاهرها، وإن كان في ما ذكروا تعارضاً صريحاً لما ورد عن أئمة اهل البيت، عليهم السلام، في تفسيرها.
___________
مقتبس من كتاب بناء المجتمع الإيماني (بصائر مستوحاة من سورة الحديد)، لسماحة السيد مرتضى المدرّسي.