قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لا ميراث كالأدب”.
لاشك ان الناس يهتمون كثيرا بما يتركونه لابنائهم، ولاريب ان كل جيل يهتم بما يتركه للاجيال القادمة، هذا جزء من حب الانسان لنفسه ولولِده وعقبه، وهذا الحب قد يُترجم في ميراث يجمعه الاب لاولاده، ولقد شاهدنا اناسا كثيرين جمعوا المال الكثير ولم يستفيدوا منه لكي يتركوا ذلك لمن يأتي بعدهم، بل وربما اعتبر الميراث بطولة للمورِّث، ذلك انه يجمع ليترك لمن بعده.
كما الفرد يهتم بولده في حياته يهتم به بعد مماته، وكم من وصية ابتدأها الآباء بقولهم: لقد تعبنا كثيرا حتى نترك لكم ما يلي.
ويعد التخطيط للمستقبل على مدى عدة اجيال دليلا على تقدّم ذلك الجيل، فنسمع ان بعض المجتمعات تخطط ليس لمن ولد اليوم، وليس لمن سيولد في هذا الجيل، بل يكون التخطيط لمن سيولد بعد عدة أجيال.
أهم المواريث
كثيرا من الناس ينسى ان اهم ميراث ليس هو المال ولا العقار، فأهم ميراث هو الادب الذي هو العادات الجيدة، والتقاليد السيلمة، وهذه هي الآداب الاجتماعية التي تسير فيها المجتمعات البشرية.
حينما تكون العادات والتقاليد الاجتماعية سليمة، يعد ذلك المجتمع سليما، وحينما تكون ــ العادات ــ منحرفة يكون المجتمع منحرفا ويسلك سبيل الهاوية، حتى لو امتلأ بالافكار السليمة، فليس الفكر السليم وحده هو المطلوب، وإنما العادات والتقاليد ايضا مطلوبة.
لما بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله، الى اليمن، لم يطلب منه أن يعلمهم الصلاة والصيام فقط، وإنما قال النبي الأكرم: “علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم
ليس المطلوب أن يؤمن الانسان بشيء وإنما المطلوب ان يعمل به، وأن يقولب ذلك في صورة عادات وتقاليد، فمثلا أمير المؤمنين، عليه السلام، دعا المرأة خلال العادة الشهرية ان تجلس على سجادتها وتذكر الله بمقدار الزمن الذي كانت تصلي فيه؛ ففي صلاة الظهر تجلس بمقدار وقت الصلاة وهكذا في بقية الصلوات، “فإن الخير عادة”.
الأمر الجيد يكون جيدا حينما يتحول الى عادة، ولذا على الانسان أن لا يتركه، كما ان الشيء غير الصحيح حينما يتحول الى عادة يكون سيئا، فلو أن احدهم ارتكب ذنبا مرةً واحدة، ثم تاب فإن الله يغفر له، لكن الاصرار على الصغائر كبيرة، فحينما يدخن الفرد مرة واحدة فإن رئته لا تتضر، بل تبدي ردة فعل، لكن حين يصبح التدخين عادةً ولا يستطيع الجسم تركه هنا تكمن الخطورة.
ولذا حين ننظر الى بعض المجتمعات نجد فيهم عادة جميلة وهو انهم ـ مثلا ـ لا يكذبون، فالثقة هي المظلة التي يعيش تحتها الناس، وهذا الحالة نجدها في مجتمعات ولا نراها في مجتمعات أخرى.
وتعد الاداب والتقاليد ــ في اي مجتمع ــ هي القنوات غير المرئية التي يسير فيها ابناء المجتمع، فإذا كانت القنوات سليمة فالمجتمع في حالة تطور، وإلا فهو في انحدار.
وكم اهتم الاسلام بتشذيب العادات والتقاليد فحرم بعضها، واجاز الاخرى، لان بعض العادات في الجاهلية كانت جيدة فأقرها الاسلام، فالعرب في الجاهلية في الاشهر الحرم لم يكونوا يتقاتلوا، فأقرَّ الاسلام ذلك، والمجتمعات تكون سليمة ليس حين يتبدل الفكر لديها، وتصبح فيها كتب ومكتبات فقط، بل حين تكون عاداتها سليمة.
ومعنى ذلك ان يكون هناك رادع اجتماعي فلا يستطيع الفرد الواحد حينها ان ينحرف، لان المجتمع كله يقف أمام الانحراف، وكذلك حين يوضع الفرد في هذا المجتمع ينمو بشكل سليم، لان القناة والطريق سليمة.
وضع تقاليد صحيحة مسؤولية الجميع
لابد من المساهمة في وضع تقليد صحيح، وصنع عادة سليمة، فقد ترى في تجمع من التجمعات انه يتم بناء الافراد على الإحسان، وفي تجمع آخر ترى العطاء الكثير، وكل تجمع يوسم بعادة يُعرف بها ويبرزها، فإما أن يكون الوسام طيبا وإحسانا، وإما يكون الوجه الظاهر للتجمع عارا وعادات سلبية.
وفي روايات اخرى كان اهتمام الأئمة عليهم السلام باديا، :”إن الناس الى صالح الادب أحوج منهم الى الفضة والذهب”، فصالح الأدب تأتي بالفضة والذهب، لكن الأخيرين لا يأتيان بالأدب.
في الدرجة الاولى يستطيع ان يكون الانسان مُعلّم نفسه ومؤدبها، فجيل لم يتلقَ الآداب والتقاليد السليمة من الجيل الماضي، فهذا الجيل يستطيع وبإرادته ان يربي ويعلم نفسه، فالفرد هو معلّم نفسه بالدرجة الاولى
ولما بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله، الى اليمن، لم يطلب منه أن يعلمهم الصلاة والصيام فقط، وإنما قال النبي الأكرم: “علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم”.
وفي حديث آخر: الادب احد الحَسَبَين” كثير ما يهتم الانسان بحسبه (نسبه) أنه منتمٍ الى فلان، والى العشيرة فلان، فإن كان حسبه جيدا فهو يفتخر به، وإن كان بالعكس من ذلك حاول الارتباط بأناس آخرين لهم مكانة اجتماعية في الحسب، لذلك جاء في رواية: “أشرف حسب حسن أدب”، “حسن الادب يستر قبيح النسب”.
” والله ان ريحي لنتن وان حسبي لئيم وان لوني لأسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي” هذه كلمات ذلك العبد للإمام الحسين، عليه السلام، في يوم عاشوراء، فأدبه ودفاعه عن مظلوم ستر قبيح حسبه، فاليوم يفتخر المؤمن الى ذلك الجيل الذي أنتج هذا العبد.
ولذلك قال أمير المؤمنين، عليه السلام، “فسد حسب من ليس له أدب” إذا كان للانسان حسب جيد، ولعائلته مكانةً اجتماعية مرموقة، ولكن أدبه لم يكن جميلا، فإن قبح الأدب يغطّي على حسن النسب.
إن كل شيء يحتاج الى العقل وهو يحتاج الى الادب، لان العقل يرشد، لكنه لا يمتلك وسيلة لاجبار الانسان على متابعة شيء، وإنما العقل يكتفي بأن يقول للفرد: هذا الشيء حَسَنٌ وهذا الشيء قبيح، وذلك صالح وضده طالح، وهنا قد يستمع الانسان الى صوت العقل، وقد لا يستجيب بسبب منع الرغبات والشهوات لنداء العقل.
الإنسان يصنع شخصيته بيده
وفي الدرجة الاولى يستطيع ان يكون الانسان مُعلّم نفسه ومؤدبها، فجيل لم يتلقَ الآداب والتقاليد السليمة من الجيل الماضي، فهذا الجيل يستطيع وبإرادته ان يربي ويعلم نفسه، فالفرد هو معلّم نفسه بالدرجة الاولى.
فلا احد يستطيع ان يصنع شخصيةَ غيره، لان الانسان نفسه هو صانع شخصيته، أما الآخرون بما في ذلك الانبياء والرسل، فإنهم يستطيعون ان يشعلوا شمعةً في طريق الانسان، ولكن الذي يسير في طريق البناء هو الانسان نفسه وليس غيره.
قال امير المؤمنين، عليه السلام: “من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم”، ولذلك فإن اكتساب الاداب يكون بالتعود :”إن لم تكن حليما فتحلّم”، قد لا يرغب الانسان في متابعة صوت العقل، ولا في ان يكون متدينا، لان الرغبات والشهوات كلها دوافع الى ان ينفلت من ربقة الدِين.
فالرغبة يوجدها الانسان نفسه، بل حتى الحُب يوجده هو، فمن يحب الناس او يكرههم بناء على رغبته هو، في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، الى مالك الأشتر قال: “واشعر قلبك المحبة”.
العادات والتقاليد الحسنة تكتسب بمرور الزمن، ولو كانت بدايتها تصنّع، قال امير المؤمنين: “ذكِّ قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب” و “افضل الادب ما بدأت به نفسك”، فالبعض يكون مرشدا للآخرين وموجها لهم، لكنه يهمل نفسه وهذا خطأ.
أفضل الآداب
قال أمير المؤمينن، عليه السلام: “أفضل الادب ان يقف الانسان على حده ولا يتعدى قدره”، هناك إنسان لا يستحق مقاما رفيعا لكنه يحتل ذلك المقام؛ سواء فيما يرتبط بالحكم وإدارة البلاد، او فيما يرتبط في البيت، او التجمع وما اشبه، وفي رواية أخرى: “أحسن الآداب ما كفك عن المحارم”.
حينما تكون العادات والتقاليد الاجتماعية سليمة، يعد ذلك المجتمع سليما، وحينما تكون ــ العادات ــ منحرفة يكون المجتمع منحرفا ويسلك سبيل الهاوية، حتى لو امتلأ بالافكار السليمة
قال الإمام الصادق عليه السلام: “لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والعمل الصالح حتى يدخلهم الجنة حتى لا يفقد فيها منهم صغيرا ولا كبيرا ولا خادما ولا جارا ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيء حتى يدخلهم النار جميعا حتى لا يفقد فيها منهم صغيرا ولا كبيرا ولا خادما ولا جارا”.
لما نزل الآية الشريفة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، قال الناس: كيف نقي انفسنا واهلينا النار، فقال رسول الله، صلى عليه وآله: اعملوا الخيرَ وذكروا اهليكم وادبوا على طاعة الله”، وذلك بجعل عادات وتقاليد سليمة في المجتمع، وهذا اهم من التعليم، ولذلك مهمة النبي في التزكية تأتي قبل التعليم: {يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فالبعض يكتفي بأن يعلم الآخرين فقط وهذا غير صحيح، بل يجب ان يقوم بمهمة التزكية، ان يجعل العلم عادةً في الناس، قال الإمام الرضا، عليه السلام: “مر الصبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشئ وإن قل، فان كل شئ يراد به الله وإن قل بعد أن تصدق النية فيه عظيم “.
إن اهم ميراث ليس هو المال ولا العقار، فأهم ميراث هو الادب الذي هو العادات الجيدة، والتقاليد السيلمة، وهذه هي الآداب الاجتماعية التي تسير فيها المجتمعات البشرية.
____________
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).