تحفَّزَتْ الفتاة ُالباحثة بكُلِّ جِدٍّ واهتمام فأبحَرَت في تأمّلها وهي تحاول الارتقاء الى عوالم البهاء والرفعة، أخذتها لحظات التأمل العميق المشدود الى روضة عبقة يحفّها الجمال والبركات فتبتهج الأحاسيس، وترتوي الروح بمشكاتها غمرتها الدهشة والذهول راحت تسأل نفسها بخشوع وعروج:
– سبحان الله .. ما هذا الذي يحدث؟!
المهدُ هناك في زاوية مضيئة، يهتز لفترة ليست بالقليلة، وكأنّ أحداً تكفّلَ بهذه الخدمة الجليلة المباركة، ولا يبدو هناك أحد، ومن المهد ينبعث نورٌ ساطعٌ بهيْ نورُ، وجهٍ كريم، إنه نورُ الحسين الحبيب.
يستمر المهد بالاهتزاز لوحده، هذا ما يوقد الحيرة والذهول، إنه لمشهد عجيب لا يضاهيه مشهد،يملأ الروح والأحاسيس بجمالِ خشوع يرتقي.
وتلك الرحى بثقلها المعروف تستمر بالدوران لوحدها أيضا وهي تقوم بعملية طحن القمح!
تختلج الأسئلة في رأس الفتاة المُبحرة في هذا الفيض الغزير بالنور والبركات:
لماذا المهد يهتز والرحى تدور؟ إنه لَأمرٌ عظيم!
تندمج الفتاة في ما تراه وهي تحاول أن تفهم ما يدور في هذا البيت المبارك؟
كَفٌّ من نور تُسبِّحُ قرب السيدة الصديقة الصائمة، وقد أرهق جسدَها قيامُها في ليلةٍ سابقة، بل في كل ليلة حتى تورّمت قدماها، فتسَلّط َعليها النوم لتستريح من التعب الناتج عن الجهد الجهيد الذي بذلته في قيامها وصيامها وحُسن تبعّلها، فغمر الله البيت نوراً وكرامات وفضائل، لذلك ساعدتها الملائكة في أعمالها رحمة من الله الرؤوف بعباده وأوليائه، أمر عظيم مدهش، أي قدر هذا الذي تحظى به ؟! وأي كرامات تحف بها؟ وأي منزلة ترتقي؟ و أي سِرٍّ يطوف حولها وهي تُحدِّث أمها مذ كانت جنيناً لتؤنسها وتخفف عنها المتاعب والآلام.
ما انقطعت عن زيارة قبر الرسول، إذ ظلّت تذرفُ الدموع وتشكو، وتفجر حزنها على ما جرى عليها، بكاؤها صوت للتحدي وثورة عارمة
دهشة الفتاة تنمو وهي تبحر في أعماق النور، تحاول الاقتراب من الكوكب الدري لتقتبس من فيض الكوثر الكثير، عَلّها تفقه السِرَّ المستودع فيها، ذلك النور الذي سطع من بطنان العرش ليزيح سحابة سوداء هائلة اقتحمت الكون، فزعت الملائكة منها وطلبوا من الله إزاحتها فتبددت به.
ذلك النور الذي أضاء أهل السماء حينما ولدت كما تضيء النجوم أهل الأرض، ذلك النور المديد الذي تبتهج به الملائكة كلما كانت تقوم في محرابها راكعة وساجدة، تتضرع لله العلي القدير وتدعو للجار قبل الدار، إنه الإيثار والكرم ومحبة الآخرين.
أي منزلة رفعتها، وسيد الكائنات يقوم لها ويقبّلها كلما رآها فهي البضعة وأم الأئمة والخير الكثير، أي بلاغة كانت تصدح بها ! وأي شجاعة كانت تحمل لإحقاق الحق والدفاع عنه.
حزنت الفتاة الباحثة واغرورقت عيناها بالدموع، ثم بدأت تنهمر، لأن الزهراء لم تنقطع عن البكاء حزناً على أبيها وعلى الظلم الذي وقع عليها.
بكت الزهراء الحانية على أبيها النبي فقد كانت بمثابة الأم له، تتذكر أيام من عَلَّم الدنيا وأنقذها من الجهل والضياع.
ما انقطعت عن زيارة قبر الرسول إذ ظلّت تذرفُ الدموع وتشكو، وتفجر حزنها على ما جرى عليها، بكاؤها صوت للتحدي وثورة عارمة.
أربكت الزهراء القوم من شدة حزنها وبكائها المتواصل ليلاً ونهاراً ولم تهدأ، فبنى لها الإمام علي، عليه السلام، بيتاً للأحزان لتختلي فيه وتبث حزنها وتطلق بكاءها بعيدا عن الناس.
أربكت الزهراء القوم من شدة حزنها وبكائها المتواصل ليلاً ونهاراً ولم تهدأ، فبنى لها الإمام علي، عليه السلام، بيتاً للأحزان لتختلي فيه وتبث حزنها وتطلق بكاءها بعيدا عن الناس
لم تزل دموع الفتاة المتحمسة تنهمر تأثراً و مواساة لأم الحسنين، عليهم السلام، وهي تبحر في خضم هذه الأحداث وتتنقل من موقف الى آخر ومن معجزة أو فضيلة الى أخرى لتغترف الكثير من المعرفة عن خزانة الأسرار.
همّت الصديقة الطاهرة نحو حجرتها لذكر الله، رغم أنَّ وضعها ما كان جيداً، ولكنها وهي العابدة المجاهدة، كل همّها هو التحليق في عالم الملكوت، والعمل الدائم لمرضاة الله، وبهذا فقط تشعر بالارتياح والسعادة الحقيقية حيث الوقوف بين يدي الله بتوجّه وخشوع عميق، مؤمنة وراضية بكل ما عانت من الخطوب منذ صباها إذ رأت ما رأت في شِعْبِ أبي طالب، والأذى الذي لحق بأبيها النبي في الحصار ومتاعب الهجرة والحروب.
دخلت السيدة المباركة حجرتها بتلك الهيبة التي منحها الله لها والتي تشبه هيبة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وخلقه العظيم، أغلقت الباب لتضج َّبدعائها وطقوسها وتجلياتها خاضعة للعلي العظيم الذي اصطفاها والذي يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.
طال مكوث الزهراء عليها السلام في الحجرة، إنها العابدة التي اجتهدت في العبادة مثلما اجتهدت في الحياة وفي العلوم والمعرفة والجهاد
إذ غطُّت في نوم عميق على غير عادتها، إنها اللحظة السعيدة التي أسرّها حبيب الله بها حين رحيله وتبسمت.
تأوهت الفتاة بكل حرقة وألم ثم أجهشَت بالبكاء، انهمرت دموعها ساخنة على أوراق الكتاب الذي تقرأ فيه فابتلّت الكتاب الذي تناولته من المكتبة، والذي في طياته الكثير من المواقف والأحداث لتنجز مشروعها البحثي عن السر المستودع في سيدة نساء العالمين ومنزلتها العظيمة و ضرورة الاقتداء بها والسير على نهجها القويم.