حينما خلق الله البشر فرض عليه المسؤولية وهو ــ تعالى ــ يعلم انّ الانسان ضعيف؛ فجوانب كثيرة يضعف فيها البشر، ولذلك جعل للمسؤولية حدودا، وتلك الحدود هي التشريع الاسلامي، الذي من ميزته انه تشريع واقعي يتاطبق مع طبيعة البشر، وفي هذا المقام نتكلم عن محددات و شروط المسؤولية:
اولا: الإنسان مسؤول عن نفسه بالدرجة الأولى
من شروط المسؤولية ان الانسان مسوؤل عن نفسه اولا وبالذات، وإذا كان مسؤولا عن غيره ففي حدود ضيقة، قال ــ تعالى ــ: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، والانبياء مسؤولون عن الامة في حدود البلاغ المبين، والناس مسؤولون بالاستجابة لنداء الانبياء، لكن في حال عدم استجابة الناس بعد دعوة الانبياء، فخطيئة عدم استجابتهم لا ترمى على الانبياء، وهذا الامر سيّان ايضا في العلماء، والدعاة الى الله، فهم لا يتحملون وزر عدم استجابة الناس لهم.
الكثير يفكّر أن مسألة “أن الانسان مسؤول” عن نفسه هي مسألة واضحة وبسيطة، لانه ـ تعالى ــ يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، لكن الامر ليس كذلك، فحين نقرأ التاريخ نجد ان هذه المسألة فيها آفاق كثيرة.
فالذين آمنوا بعيسى بن مريم اُوذوا أذى كبيرا، وقصة اصحاب الاخدود مذكورة في القرآن الكريم، شاهدةٌ على ذلك، قال ــ تعالى ـ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}، فضاقت الارض ذرعا بالمؤمنين، ولم يعد بإمكانهم تحمل ذلك العذاب.
وهؤلاء المؤمنين بعيسى عليه السلام، انقسموا الى ثلاث فئات؛ فالأولى تركت الناس وذهبت الى الجبال، وصاروا يتعبدون، {وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، وأمثال هؤلاء لازالوا موجودين في الأديرية (الدير هو مبنى عبادة لدى بعض الديانات كالبوذية والمسيحية يستخدم للعبادة والتأمل)، يعبدون الله بعيدا عن الناس، وهؤلاء لا يأكلون ولا يلبسون إلا ما ينتجونه بأيديهم، ومن يريد الانضمام الى الدير، يُعطى قطعة أرض يحفر فيها قبره من اول يوم انضمامه للدير.
إن الدِين الاسلامي حينما حمّل الانسان المسلم المسؤولية جعل لها شروط ومحددات يجب الالتزام بها، وأن يكون الانسان مسؤولا عن شيء فذلك لا يعني ان يعمل وفقا لهواه ورغباته
و الفئة الثانية هم الذين تكتموا على أمرهم وعلموا بالتقية: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، والفئة الثالثة ذهبوا الى السلاطين في الدولة الرومانية، وعبدوا الآلهات الثلاث، ومن ثم اقصوا عن السياسة بدعوى يبقى الدين بعيدا عن الامور السياسية للدولة.
ثانيا: مسؤولية تبليغ الدِين لا تسمح بتغيير الاحكام الشرعية
ظهر بعد انقسام المسيحية الى ثلاثة فئات مسألة أخرى تمثلت في ظهور ما يسمى؛ الاب، والابن، والروح القُدس، ومن ثم اظهروا شعار “ما لله لله وما لقيصر لقصير” و معنى ذلك أنَّ الدِين لا يتدخل في الامور السياسية، ورجل الدِين ينأى بنفسه عن أمور الدولة وما يتعلق بالسياسة، والمسيحية المنتشرة ــ اليوم ـ في العالم هم هؤلاء و يسمون بالكاثوليك، ومقرهم الرئيس في الفاتيكان.
والسؤال المهم: كيف وصل بهم الى هذه الحالة؟ اي فصل الدِين عن الدولة؟ او ابتداع ما يسمى بالأب والابن والروح القدس؟
الجواب: كانوا يريدون إدخال الناس الى الدين (المسيحية)، لكن رأوا ان ذلك لا يتم إلا إذا غيرّوا الدِين، وهذا خطأ كبير، لان الدِين لا يتغيّر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}.
وبعض الدُعاة في العالِم الاسلامي بدأ يسير بنفس الخُطى، فمثلا ظهر البعض وقال: إذا كان الامر متوقفا على الحجاب فلا يجب على المرأة ان تلبس الحجاب! و نفس الأمر في مسألة الصلاة، فالبعض يتنازل عن هذا الواجب في سبيل تحبيب البعض الى الدِين، وهذا الامر اشبه ان يأخذ الانسان في يده مقصا ويبدأ بقص الدِين وكأنه ثوبا يُخيّط، حيث يصنع دينا تبعا لهوى الناس.
وهذا الامر خطير جدا، ومن يفعل ذلك باعتقاده ان الناس سيأتون الى الدِين، لكن لن يكون دِين الله، بل دِين الأهواء، وكثير من الانحرافات التي حدثت بسبب هذا الامر الخطير، والدِين البهائي مثال واضح على ذلك بفعل محمد علي الباب.
التديّن كما يريده الاسلام
الاسلامُ يحمّل الانسانَ مسؤوليةَ نفسه، والداعي الى الله ليس مسوؤلا بإحضار الناس مجبرين الى الدِين، فمن لم يأتِ يتحمل مسوؤلية ذلك هو بنفسه، فالداعي الى الله مسؤول عن تبليغ الدِين.
ولابد من الاشارة أنَّ الداعي قد لا يبلّغ كل أحكام الدِين دفعة واحدة، لكن يبيّن جزءا منها، ثم يأتي الظرف المناسب ليبين بقية الاحكام، فيكون تبليغ الدِين بطريقة تدريجية، أما أن يعمد البعض الى تغيير الدِين لأجل إقناع الآخرين به فهذا غير ممكن، وهذا من محددات المسؤولية: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
من ابعاد المسؤولية ان لا نظلم أحدا في شيء، ولو مثقال ذرة، ومعنى ذلك اجتناب المحرمات في الاسلام، كالغش الذي لا يعد شطارةً، بل تحايل على الآخرين
وحين يدعو المؤمن الى الله وحده ولا يلقَ استجابةً، ولم يندمج مع المجتمع، فإنَّ الله يعذب ذلك المجتمع، وينجو المؤمن، والمثال على ذلك قوم لوط، فنبي الله لوط ظلَّ يدعو قومه لكنهم لم يستجبوا له، بعدها عذّبهم الله ـ تعالى ــ وخرج لوط وبناته بسلام لم يصبهم شيء، والعذاب الذي نزل على قوم لوط لم يكن له مثلا ــ حسب الظاهر ــ وقد قال خبراء: بأن العذاب الذي نزل على قوم لوط كان ما يعادل 200 قبلة ذرية كالتي ضربت هيروشيما في اليابان.
ثالثا: العدل في القصاص
ومن محددات المسؤولية العدل في القصاص، فلابد ان يكون بقدرالجريمة وبحدودها، فإذا قٌتل شخص فالقصاص يكون بشخص مثله، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أما أن يقتل أحدهم كأن يكون شيخ عشيرة، فيقتصون من عشرة اشخاص! وهذا الشيء مع الاسف موجود في مجتمعنا.
وكمثال آخر؛ قد تحدث مشكلة في بلد ما في العالم، لكن يتم مضاعفة المشكلة لتصبح اكبر مما كانت عليه في البداية، والاسلام خالف ذلك تماما، فالقصاص يترتب حسب مقدار الجريمة وطبيعتها.
أبعاد المسؤولية الأخرى
من ابعاد المسؤولية ان لا نظلم أحدا في شيء، ولو مثقال ذرة، ومعنى ذلك اجتناب المحرمات في الاسلام، كالغش الذي لا يعد شطارةً، بل تحايل على الآخرين، ومن المحرمات الربا لانه أكل اموال الناس بلا حق، والسرقة، والاحتكار، والاستثمار غير المشروع وما اشبه من المحرمات التي يجب الابتعاد عنها.
كلُّ إنسان يجب ان يصل الى حقه بشكل كامل، ولا يجوز له ان يتجاوز الى حقوق الاخرين مهما كان، لذالابد من الحذر، لان البعض قد يُجر الى ذلك بدوافع الاحساس والعاطفة فيأخذ أكثر من حقه.
الاسلامُ يحمّل الانسانَ مسؤوليةَ نفسه، والداعي الى الله ليس مسوؤلا بإحضار الناس مجبرين الى الدِين، فمن لم يأتِ يتحمل مسوؤلية ذلك هو بنفسه، فالداعي الى الله مسؤول عن تبليغ الدِين
وفي بعض الروايات ان المظلوم يصبح ظالما، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: “إن العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما”، كأن يشتري احدهم سعلةً ويتم خداعها ويتبين ان السلعة ليست بالمواصفات المطلوبة، فما كان من المشتري إلا ان يذهب ــ مثلا ــ الى حرم الإمام الحسين، عليه السلام، ويدعو على البائع بالهلاك، لذا حتى في مسألة الدعاء لابد ان لا نقول بأكثر من حقنا.
وايضا لابد ان يعرف الانسان انه اذا حصل على شيء أكثر من حقه، فهذا يعني انه اخذ من حقوق الناس وهذا يعد ظلما.
العلم من شروط تحمل المسؤولية
التشريع الاسلامي أولى العلم بفعل شيء أهميةً بالغة، بخلاف القانون الوضعي، فإذا صدر قرار ونُشر في الجريدة الرسمية فقد اكتسب الدرجة القطعية حتى لو كان الفاعل غير عالم، لكن في الدِين الاسلامي لابد ان يكون الانسان عالما بما أقدم عليه، وبخلاف ذلك لا يعاقب، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “رفع عن امتي تسعة: الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يطيقون ولا ما لا يعملون وما اضطروا اليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة بالقلب ما لم ينطق بشفة”.
إن الدِين الاسلامي حينما حمّل الانسان المسلم المسؤولية جعل لها شروط ومحددات يجب الالتزام بها، وأن يكون الانسان مسؤولا عن شيء فذلك لا يعني ان يعمل وفقا لهواه ورغباته، بل يجب ان يسير وفق المحددات الشرعية التي بينها الدِين الاسلامي، لانه بذلك يضمن الوصول الى الهدف الذي تحمل المسؤولية من أجله.
_________
(مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله)