قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “السخاء ما كان ابتداء فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمّم”.
نحن نولد ولا نملك شيئا، ونموت ولا نأخذ معنا شيئا، وكلما نعده ملكا لنا إنما هو عارية يأتي من مكان ويذهب الى آخر، وكما يقول المثل المعروف: لو دامت لغيرك ما وصلت اليك، ولذلك فوجود الانسان، وحياته، وشبابه، واملاكه كلها عواري، صاحبها يعطي ويأخذ، إنما لكي يعرف مَن منا يكون سخيا، ومن يكون بخيلا.
المَلك والمالك هو الله ــ عز وجل ــ فلا احد يملك شيئا، فالانسان لا يملك نفسه، ولا يده، ولا عينيه، وعندما يكبر الانسان يريد ان يقرأ ولكنه عاجز، ويريد ان يمشي ولكن رجلاه لا تحملانه، ويريد ان يمسك شيئا ولكن لا يستطيع، وكذا في بقية الاعضاء التي لا تساعده على فعل شيء.
حينما يعطي الانسان فهو لا يعطي مما خلق او صنع، او يعطي شئيا من عنده، بل من حصل عليه من الله، وكما ان الله خلقنا من دون مسألة منا، فلم يطلب أحد منا من ربه أن يخلق فخلق! فالله هو الذي خلقنا واعطانا النشاط والحرية بدون مسـألة وهذا هو السخاء.
والسخاء هو ان تعطي بلا مقابل أما إذا كان في مقابل شيء فليس سخاء، فالتجار ليسوا أسخياء حينما يبيعون ويشترون، وكذلك العطّار والبقّال وما اشبه، فلا يستطيع اي بائع ان يمنَّ على المشتري اذا كان قد قبض الثمن.
إذا سبق السخاءُ السؤال فلا يعد ذلك سخاءً، فمن أراق ماء وجه وحصل على شيء، فالمعطي ليس سخيّا، لان السائل بذل كرامته وعزته.
تأثير العطاء
للعطاء تأثيرين:
ـ تأثير خارجي: ان الذي يأخذ يحصل على شيء ويقضي حاجته.
ـ تأثير داخلي: وذلك يكون داخل نفس المعطي.
السخاء هو ان تعطي بلا مقابل أما إذا كان في مقابل شيء فليس سخاء
حينما يعطي المؤمن شيئا ويكسب الاجر والثواب يرتفع على بخله، إذ ان العوامل التي كانت تشده الى المال، خرقها ومزقها، فإذا كان العطاء من رغبة في الداخل، حينها يرتفع على البخل وعلى النفس.
لكن حين يكون العطاء عن استحياء فالمعطي لا يرتفع شيئا، لان العطية كانت عن حياء، وفي داخله ندم يؤنبه، فلا قيمة للمعطي بهذا العطاء، صحيح ان السائل قد حصل على شيء ليقضي به حاجته، لكنّ هذا العطاء لم يغيّر في المعطي شيئا داخليا!
نحن أمام كل فائض، سواء كان في المال، ام القوة، ام العمل، وما اشبه، نحن بحاجة للبحث عمن يحتاج اليه، فإذا كان لدى أحدهم بيوتا عدة، فعليه ان يبحث عن رجل لا يملك بيتا ليقدم له مَسكنا، ومن كانت لديه القوة ورأى امرأة او رجلا عاجزا يريد حمل شيئا ثقيلا، فلابد من المبادرة الى المساعدة، وهذا اشبه حين ينزل المطر على جبل و يتحول ذلك المطر الى ثلج، ثم يأتي الصيف ليذيب ذلك الثلج وينزل الماء الى الحفر الموجودة اسفل الجبل، او ينزل الماء الى المكان الذي يجب ان يكون فيه، والانسان في حياته لابد ان يكون كالمطر، فهو الذي يبحث عن المحتاج ويصل اليه.
وفي جمع المال يقال أمير المؤمنين: “ما اجتمع مال إلا عن بخل او حرام”، فمتى ينفق الذي جمع ماله إذا كان هناك ملايين الفقراء في بلده وفي بلدان أخرى، فمن كان لديه مال ويوجد جائع ولا يسد جوعته، فهنا يكون البخل او الحرام.
يصف أمير المؤمنين، عليه السلام، رسولَ الله: كان اسخى الناس كفّاً”، وكان رسول الله لا يبقي شيء من أموال إلا وينفقها على المحتاجين، والنبي الاكرم المثل الناصع في الجود والسخاء.
مناشئ البخل؟
قد يكون البخل بسبب سوء الظن بالله، فيدخر المال لنفسه ولحاجته، ويفكر انه رازق نفسه واولاده، أما الانسان المطمئن الى فهو يرى بان الله الذي اعطاه سابقا، سيرزقه لاحقا.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} فالمال لا ينفع الانسان إذا تردّى، فإذا اصيب بمرض خبيث فكل اموال الدنيا لا تفيده.
كل أمراض الامة وبقية الشعوب البشرية نابعة من قلّة الأخلاق
{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} فهذا يعطي ماله ليزكّي نفسه وهنا يكون الاثر الداخلي للعطاء
السخاء ان يعطي الانسان للتزكية وفي مقابل لاشيء، بل ولا يطلب من الاخر جزاء في يوم من الايام {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، ومن يعطي ليستكثر لا يحصل على تقدم روحي، ولم يتجاوز ذاته.
قيمة السخاء
قد لا يعرف البعض القيمة الحضارية للجود والسخاء والشجاعة وما اشبه، وقد يعدها بعض المؤمنين شيئا ثانويا، فالمهم ــ عند البعض ــ صلاته، وصيامه، بان تكون بشروطها الكاملة والجزئية، لكن هؤلاء ينسون ان روح الصلاة والصيام وبقية العبادة، الاخلاق، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق”، فمن الخطأ ان يفكر المؤمن ان الجود والسخاء لا قيمة له في الاسلام.
كل أمراض الامة وبقية الشعوب البشرية نابعة من قلّة الأخلاق، فالدكتاتورية نابعة من البخل، فالحاكم البخيل الذي له زمام السلطة، والثروة لا يريد ان يوزعها للآخرين فيستأثر بها لنفسه، فالدكتاتور هو الذي يريد كل أمورالحياة بيده، التجارة، والزراعة، والدبلوماسية وما اشبه، فالأنأ تضخمت لديه حتى ملأت كل شيء عنده، فهو كل شيء في الدولة!
وكذلك الطبقية، فهناك فقير مستضعَف لا يجد قوت يومه، وهناك مترف غني لا يعرف مقدار ثروته، والطبقية نابعة من البخل وسوء الاخلاق، وقلّة السخاء والجود.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الدِين والدنيا قائم على اربع امور: عالمٍ مستعمل علمه وجاهل لا يستنكف ان يتعلّم وجواد لا يبخل بمعروفه وفقير لا يبيع آخرته بدنياه فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنيا”.
لابد ان يعطي الاغنياء فَضْلَ أموالهم، لان إمساكهم يسبب أمور لا تحمد عاقبتها في المجتمع، فالفقر يؤدي القتل، والسرقة، في حين يصرف بعض الاغنياء الاموال الطائلة في رحلة صيد محرّمة، او حفلة عشاء في عرس يكلف الملايين!
سأل رجل أبا الحسن عليه السلام – وهو في الطواف – فقال له: أخبرني عن الجواد، فقال: “إن لكلامك وجهين: فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عز وجل عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له”.
عوامل البخل تكون في ذات الانسان لا في المجتمع، ولذا لابد من تجاوز الذات وبذل المال للمحتاج، فمن يعطي يعوضه الله زيادةً على ذلك
وعوامل البخل تكون في ذات الانسان لا في المجتمع، ولذا لابد من تجاوز الذات وبذل المال للمحتاج، فمن يعطي يعوضه الله زيادةً على ذلك، يقول الإمام السجاد، عليه السلام، في دعاء مكارم الاخلاق: “وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَىٰ يَدَيَّ الْخَيْرَ”، فالمؤمن يجعل نفسه واسطةَ خيرٍ للناس، فمن يعطي اليوم يعوضه الله بعد سنوات في موضع حاجة ماسة، وقد يكون المال الذي بذله الانسان المؤمن ــ ظاهرا ــ خسارة، لكنه في ذات الوقت تزكية لنفسه وتربيتها، ويحصل على العوض فيما بعد، ولابد ان يكون العطاء لله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
________
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).