أدب

الصورة السينمائية في (الماء والنوارس)للقاصّة زينب الأسدي

هناك فرق كبير بين الحدث التاريخي أو الشخصية التاريخية المنقولة، كما هي وبين المتناول منها سرديا برؤى مختلفة لتجسيد وتأكيد الهدف، والمعنى المستنبط من تلك الاحداث والمواقف، والتي تحمل الكثير من الأفكار والقيم والمُثل العليا التي تبني الإنسان من خلال اقتدائه بعظمة تلك لشخصيات ومواقفها وخصالها العظيمة.

والمؤرخ ليس كالأديب الذي يحمل الكثير من المعالجات الفكرية والأساليب لإبراز عظمة ما يقوم بنسجه في نصّه السردي، وهذا المفهوم طبعا ينطبق على كل الأجناس الأدبية التي تتناول التاريخ.

و الصورة السينمائية التي تحمل ما تحمل من الكتل المتوزعة والحركات المعبرة والتكوين المنسجم، لها دور كبير في بث العديد من المعاني الى المتلقي؛ حيث تعمل على جذبه لجمالها الابداعي السحري الخلّاق.

 وعادة أنّ الفيلم السينمائي يحتوى على مجموعة من المشاهد، والمشهد الواحد يحتوى على مجموعة من اللقطات اضافة الى تقنيات أخرى.

وعلى هذا الأساس ندخل في أجواء القصة التي أبدعت فيها القاصة زينب الأسدي بلغتها المتميزة ووعيها العميق بالشخوص والأحداث والتي تركّزَ موضوعها في السيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، في لحظة وفاتها.

 إذ تجلس قربها السيدة أسماء بنت عميس تروي الأحداث فتستذكر يوم وفاة ام المؤمنين السيدة خديجة، عليها السلام، حيث كانت خائفةً على ابنتها فاطمة، وقد تعهدت هي على الوقوف بجانبها يوم عرسها.

 و تروي السيدة أسماء  يوم زواج الزهراء من الامام علي، عليهما السلام،  وابتهاج الملائكة في السماء وهي تهبط وتعرج ومنهم الملك (فطرس) الذي عاقبه الله فانكسر جناحه فمسح به على جسم الحسين، عليه السلام، وهنا يتبين جلياً عظمة الوالدة والمولود.

ومن عنوان القصة العام (الماء والنوارس) يتبين أن القاصة قد شبهت السيدة فاطمة بالماء الذي هو اساس الحياة، ووصفت الحسن والحسين، عليهما السلام، بالنوارس.

 كما يتبين من خلال السرد في بداية ونهاية القصة، وقد قسّمت القاصة زينب الاسدي قصتها الى ثلاث مقاطع وكأنها ثلاث مشاهد سينمائية متتابعة وأعطتها عناوين فرعية ( الماء والنوارس – راحيل- النعش الحبشي ).

وأرى قصديةً واضحةً في التحول من مشهد الحزن لحظة وفاة الزهراء واستذكار السيدة خديجة حين وفاتها، ثم الانتقال الى زواج النورين وكيفية احتفال الملائكة، ثم العودة بالمشهد الأخير حيث الحديث عن النعش الذي ستحمل عليه  فكان النعش الحبشي الذي فرحت به الزهراء.

 إن تقسيم القصة الى اقسام كان هدفه إبراز أهمية كل حدث وقيمته بمحتواه المستقل وإن ارتبط بخط القصة العام.

لقد تميز وصف القاصة  بالسرد الى الاهتمام باللقطة السينمائية التي هي النواة الاساسية للمشهد، وبتجاوراللقطات يتكون المشهد والمعنى.

ففي بداية القصة وعن لسان السيدة أسماء بنت عميس صورت القاصة بلغة جميلة وكأنها (لقطة عامة استعراضية) وهي ضرورية لاستكشاف المكان وطبيعته  ومعرفة أبعاد الشخصية وحالها في بداية كل فلم سينمائي وهي بمثابة تمهيد للدخول في أجواء القصة: “كانت الغيوم تحتبس في السماء وتنذر بهطول قريب، اعتقدتُ دومًا أن المطر يخلق مزاجا يثير التأمّل، وقد اعتقد غير قليل من الشعوب والأقوام بقداسة الماء وقدرته على الشفاء وقد قال عنه الله عزّ وجلّ: {وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حيّ}.

 تناولتُ كأسا منه، وجئتُ به إلى فاطمة، كانت ممدّدة  في غرفة لا تتجاوز بضعة أمتار مدّت في أرضه بساطًا من الجلد“. نرى الجمل ووصفها المعبر معادلة للقطات في السينما بأحجام مختلفة وهي تجسد تكاثف الغيوم، التأمل، كأس من ماء المطر، المجيئ الى فاطمة، وصف مكان الغرفة.

وتتوالى اللقطات التي تحاول تصوير المكان والحدث الغيبي المشوّق حيث يجسد الفعل الذي يجري في السماء وهو ينقلنا الى حالة اخرى من الروحانية وإظهار أهمية الحدث بشكل تخيلي مدهش كدهشة الصورة السينمائية: “كان زواج علي وفاطمة بسيطا في الأرض ولكنّه أحدث صخبا في السماوات، فقد أُقيمت حفلة القران في السماء الرابعة عند البيت المعمور، كان الصخب مشتدًّا وقد أُعلنَت الاحتفالات والأفراح.

 احتشدنا في صفوف وقد بلغنا أربعين ألف ملك أشهَدَنا الله على عقد القران وقد نُصب منبرٌ من نور، كان راحيل من ملائكة حُجُب الله، وليس في الملائكة أحسن منطقا منه، ولا أحلى لغة  أوحى الله إليه أن يعلو ذلك المنبر، وأن يثني عليه بما هو أهله ثمّ أعقبه جبرئيل، وقرأ خطبة العقد، ثمّ أوحى الله إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدرّ والياقوت، فابتدرت إليه حور العين يلتقطن في أطباق الدرّ والياقوت، فهم يتهادونه بينهم إلى يوم القيامة“.

وعن (النعش الحبشي) يتجسد عمق المعنى في تصوير حالة السيدة الزهراء واهتمامها بأدق التفاصيل، وتتنقل الجمل في السرد كلقطات مشحونة بالمعاني والإشارة الى ما تريده سيدة النساء عليها السلام: “لقد نحلتُ يا أسماء وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئا يسترني عند تشييعي، أريد من ذلك النعش الذي يُصنع في الحبشة؛ رحتُ أؤانسها في الكلام وأتجاذب معها أطراف الحديث علّها تهدأ ويرتاح بالها، ثمّ طلبتُ سريرا جاؤوا به، قلبته على وجهه وجئتُ بشيء من جريد النخل فشددته على قوائمه ثمّ غطّيته بثوب، لمّا رأته فاطمة سعدت وندّت عن شفتيها ابتسامة فاترة ثمّ قالت: ما أحسن هذا وما أجمله لا تُعرف به المرأة من الرجل“.

وتختم القاصة سردها التصويري على لسان الراوية السيدة أسماء بنت عميس وهي تصور

لحظة النهاية: “كانت الأيّام عصيّة غير راحمة فقد خطفت منّا سراً من أسرار الوجود التي أرسلها الله من جنانه واستودعها أرضه، فلم تعرف كائناتها عظمة هذا السرّ وأبين حمله، رحيل فاطمة قصم ظهري وتركني أتجرّع مرارة الفقد، كانت صديقتي الأقرب والأحن.

 آه يا خديجة! لو عرفتِ بمصابها لطلبت منّي مرافقتها في وفاتها بدل زفافها، علّك تسألين ماذا فعلتُ يومها؟ الكلام كثير، وللكلام قدرة على التقطيع كالحسام أحيانًا! كنتُ بجانبها أيضا عندما انسابت كالماء، بينما رحتُ أنا أرمّم مسافات البعد، وأرتّق الجراح، أرى عليّاً يتقلّب في أتون الغياب، وأرى الحسنين مثل نورسين يحومان حول النعش يرومان الانتعاش ..أما هي فقد  تابعت مسيرها في الفضاء اللامتناهي تكسر آفاق الانتظار“.    استطاعت القاصة  زينب الأسدي أن تصور وتؤكد بعدستها ورؤاها جوانب مهمة ودقيقة وعميقة درامياً وإبراز عظمة شخصية الزهراء، عليها السلام، بإسلوب مؤثر بسحر اللغة التصويرية المتمكنة، من خلال الجمل السردية التي هي بمثابة أنواع من اللقطات والحركات داخل المشهد والتي تعبر عن الشخصية ومنزلتها وما يجري حولها من أحداث مهمة.

عن المؤلف

كفاح وتوت

اترك تعليقا