غصنٌ أخضرٌ من شجرة النبوة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمرة أخيرة من علي وفاطمة، بعد الحسن والحسين، عليهم السلام.
اكتحلت عيناها بالنظر الى وجه رسول الله في ساعات ولادتها الأولى، وبعد أن سمّاها زينب، فكانت الحظوة العظيمة بالاقتباس من الأنوار الخمسة في كل شيء؛ من الإيمان، والعلم، والعقل، والأخلاق، والفضيلة، فقد أخذت من جدها المصطفى الخلق الرفيع، ومن أبيها، العلم والبلاغة، ومن أمها، العفّة والحياء، وكل ما تحتاجه الفتاة لشخصيتها الناجحة في الحياة، ومن أخيها الحسن المجتبى، الحلم والصبر، ومن أخيها الحسين، الشجاعة والتحدي، فصارت مجمعاً للمكارم والفضائل لتكون قاب قوسين أو أدنى من العصمة، وقد وصفها الامام زين العابدين، عليه السلام: “أنت بحمد الله عالمة غير مُعلمة و فهمة غير مُفهّمة”.
الطريق الصحيح الى النجاح
في مقالات سابقة ذكرت هذه الملاحظة بأن رموزنا العظام من أهل بيت رسول الله، ممن اصطفاهم الله من بين خلقه ليكونوا أمناء على رسالته، كانوا بشراً مثل سائر الناس من حيث الظاهر، فكانوا يأكلون ويلبسون ويتزوجون ويعيشون الحياة الطبيعية بين الناس، بيد أن الفارق في الجوهر وفي السلوك وطريقة التفكير، و تطرقت الى هذا المعنى في مقال عن حياة الصديقة الزهراء، عليها السلام، ونفس الأمر ينطبق على ابنتها العقيلة زينب التي نحتفل هذه الأيام بذكرى مولدها السعيد، فكما أن أمها الزهراء، كانت مثل أي أمٍّ في المدينة آنذاك، كانت زينب مثل أي فتاة من أبناء جنسها وعصرها، تحب وتكره، وتتفاعل مع المحيط الاجتماعي، إنما التميّز في الدوافع والغايات لهذا الحب او ذاك الكُره، وكيفية العيش مع الناس.
الحقيقة التي تكشفها لنا السيدة زينب أن المرأة يمكنها ان تكون عاقلةً مثل الرجل إن كانت لها الإرادة الحقيقة، لأن “قيمة العقل تعني ما نميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، وما يكون به التفكير والاستدلال، والعقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها
وفي حياة السيدة زينب محطات عدّة يجدر بنا البحث عنها بجدّية ودقة لنجعلها نبراساً تضيء لحياتنا اليومية، والعبرة عامة للجميع وخاصة ايضاً لبنات حواء، فوجود مثل السيدة زينب في الرصيد الثقافي للمرأة المسلمة يُعد نعمة عظيمة.
نتوقف عند بعض المحطات المهمة:
- المرأة العاقلة
يثير البعض بطريقة مؤسفة مسألة العقل عند المرأة، وأنها “ناقصة العقل”، وهذا الحديث يمكن وصفه بسهم بشعبتين –إن جاز التعبير-: الأولى تستهدف تحجيم المرأة، والاستدلال بأنها عاجزة عن أعمال كثيرة، والشعبة الثانية؛ تمثل المتصيدين بالماء العكر من الغاضبين من وجود نظام اجتماعي متكامل في الإسلام، وأنه “ينتقص من المرأة ويقلل من شأنها”.
بينما الحقيقة التي تكشفها لنا السيدة زينب أن المرأة يمكنها ان تكون عاقلةً مثل الرجل إن كانت لها الإرادة الحقيقة، لأن “قيمة العقل تعني ما نميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، وما يكون به التفكير والاستدلال، والعقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها، وهو غريزة تزيد بالعلم والتجارب وأفضل شيء لتنمية العقل؛ التعليم، وكانت السيدة زينب من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة الذين خصّهم الله بالعقل الوافر واللبّ الكامل والفكر الكبير فكانت تمتاز بوفرة عقلها وحكمتها، لذلك لُقبت بـ “العاقلة”، و”العقيلة”. (القيم التربوية في سيرة السيد زينب- الدكتورة سادسة حلاوي حمود).
وقد عرّفوا العاقل بأنه من يضع كل شيء في محله، و يُحسن الاختيار، واذا راجعنا يوميات السيدة زينب في مرحلة ما بعد واقعة عاشوراء واستشهاد الامام الحسين، نجد كل مواقفها وتصرفاتها وأقوالها كانت وفق ميزان العقل والحكمة، ومنها؛ التنكّر في مجلس الطاغية ابن زياد لإظهار حجم السخط والاعتراض، ومنع النساء الكوفيات من الدخول الى مكان النساء المسبيات، والاقتصار على “أم ولد”، وهي المرأة الأمة (عبدة) المتزوجة من رجل حُر، وجاء توضيحها لعلّة قرارها بـ “إنهنّ سُبين كما سُبينا”، وبهذا القرار الحكيم حافظت على مشاعر نساء أهل البيت، ونساء الاصحاب الشهداء، كما احترمت مشاعر المرأة غير الحُرة، وأعطتها قيمتها في المجتمع.
- المرأة العالمة
بما أن العلم هو “نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء”، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله، فعلينا الاطمئنان بإمكانية أن تكون المرأة عالمة كما يكون الرجل عالماً، ولا حظر او تحديد في مسيرة طلب العلم، وهو القائل، صلى الله عليه وآله: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، وهو ما جسدته العقيلة زينب منذ صغرها، فقد كانت تحفظ وتتعلم، ثم تعلم الآخرين، وقد روى المؤرخون أنها كانت في عهد أبيها أمير المؤمنين، عليه السلام، في الكوفة محطَّ رحال سيدات كُثر يفدن عليها للسؤال عن المسائل الشرعية، وعن أي استفهام يعترض حياتهنّ، وايضاً؛ الاستماع الى تفسير القرآن الكريم لأنهم كانوا يرونها المرآة الصافية لأبيها أمير المؤمنين، عليه السلام.
- العفّة والحياء
إنها من الفضائل القابلة للنمو في نفس الانسان؛ المرأة والرجل معاً، فالعفّة تعني الكفّ عن قول او فعل، وجاء في معجم المعاني الجامع: “تعَفَّفَ العَابِدُ: عَفّ؛ امتنع عمَّا لا يحلُّ ولا يليق، وتجنَّب سيِّئَ القول والفعل”، أما الحياء فهو التحرّج من فعل الخطأ، او الشعور بالخجل من احتمال الخطأ، وهو نقيض الصلافة والوقاحة، وفي التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة لنساء تخيّلن أنالصلافة والوقاحة والتظاهر امام الناس بالقدرة على فعل كل شيء (نقيض العفّة)، هو مفتاح دخولهن الى عالم النجاح والقوة والتفوق، ولئلا تكون نقطة ضعف امام الرجل.
وفي حياة عقيلة بني هاشم ومضات تنسف هذا التصور الساذج للأمور، وتعظم شخصية المرأة من خلال عفتها وحيائها.
نُقل في التاريخ عن جارٍ لأمير المؤمنين في المدينة، وهو يحيى المازني: “كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتا”.
وفي رحلة السبي كانت تعلّم الناس الحياء والعفّة بعدم النظر الى نساء أهل بيت رسول، وهُنّ في تلك الحالة المزرية فوق الأبل.
في رحلة السبي كانت تعلّم الناس الحياء والعفّة بعدم النظر الى نساء أهل بيت رسول، وهُنّ في تلك الحالة المزرية فوق الأبل
و رواية ينقلها الشيخ باقر شريف القرشي في موسوعته القيّمة عن الأئمة المعصومين، وفي الكتاب الخاص بالإمام الحسين، عليه السلام، إن يزيد أراد تعويض أهل البيت عما جرى لهم في كربلاء، فصبّ أموالاً كثيرة على بساط من حرير وقال: “خذوا هذه الأموال عوض ما أصابكم”، فردت عليه العقيلة زينب مستنكرة ومستهجنة فعله: “ما أقلّ حيائك وأصلف وجهك، تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم”؟!
وقبل الختام، أجدني ملزماً بالإشارة الى دور الأب في مساعدة ابنته في تنمية التعقّل والتعلّم والحياء والعفة، وايضاً سائر الصفات والكمالات النفسية والروحية، وهذا ما كانت عليه ابنة أمير المؤمنين، وهم، عليهم السلام، قدوة لنا جميعاً، في أن نقتدي بهم في حياتنا، لاسيما في الوقت الحاضر حيث بات من الصعب جداً تحديد الوجهة الصحيحة لمن يبحث عن النجاح والتألق والسعادة، هذا الدور المحوري هو الذي يصنع لنا الفتاة المؤمنة، والزوجة الصالحة، ثم الأم المربية والصانعة للأجيال.