لماذا يركّز القرآن الكريم على الصفات السلبية للإنسان أكثر من الإيجابية، في حين يدعو في آيات كُثر الى حياة سعيدة في الحياة يقودها هذا الانسان؟
العلماء يذكرون اسباباً عديدة منها؛ التحفّز للمعالجة دائماً، والإصلاح والبحث عن الأفضل في مسيرة التكامل، وعدم الاغترار بالموجود مما يسبب التخلف والخسران.
فاذا نقرأ في القرآن الكريم إن الانسان {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}، او {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، و{كَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}، والآية التي تستوقفنا في هذا المقام من سورة المعارج؛ {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}، وهنا يكون الانسان امام مرآة نفسه، فيرى ضعفه امام ملمّات الزمن وطوارق الاحداث، وفي نفس الوقت يكتشف مدى حبّه لنفسه وعبادته لذاته دونما شعور.
حب الذات من مسببات الكآبة
جاء في التفاسير أن “الهلع”، هو شدة الحرص، وقلّة الصبر، وقيل الهلوع؛ الضجور، كما يعبّر عن البخل والحرص، او الخوف والقلق على الذات والمصالح الخاصة مما هو قادم.
البصائر القرآنية ترشدنا دائماً الى اجتماعية الانسان، وأُنسه مع نظرائه في الخلق، بل وتكامله معهم في جوانب عديدة مثل العلم، والايمان، والتكاثر (الزواج)، والأخلاق والآداب، فعندما نقرأ عن الهداية والرشاد والفلاح نلاحظ أنها للجماعة وليس للفرد وحده، كما أن العذاب والانتقام الإلهي بسبب الكفر بنعم الله، وتجاهل دعوات السماء، يحلّ بالجميع وليس بشخص واحد ربما يكون المذنب الوحيد، كما في قصة ناقة صالح.
الانسان المنفق سيشعر بارتياح واطمئنان لانه نقل هذا الارتياح والاطمئنان والرخاء الى انسان آخر، فيتذوق طعماً جديداً للحياة غير ما كان عليه في حالة الانطواء وغلق الأبواب على نفسه
فإذا اختار الانسان لنفسه الانطواء على الذات بدعوى الحفاظ على مصالحه وحياته التي تعب من اجلها، وربما يتحدث البعض عن الحفاظ على الدين والأخلاق من الفتن! فهو يفتح على نفسه باباً نحو ظلام الكآبة بحيث لا يرى سوى نفسه، لاسيما اذا تعرض الى مكروه، سيجد نفسه وحيداً كما لو أنه في صحراء قاحلة دون بشر، فيما يرى بعينه الآخرين من جيران وأصدقاء يتواصلون بالابتسامة والتعاون والتكافل.
ربما نجد بعض الميسورين ومن ذوي المكانة الاجتماعية والشهرة، يبتسمون في صورهم المنشورة على مواقع التواصل، وربما حتى في بعض المناسبات الاجتماعية، بيد أن هذه الابتسامة تخفي قلقاً واسعاً في النفس والقلب، ولذا فإن الدارج في المجتمع اختبار مثل هؤلاء بالمال قبل أي شيء آخر لمعرفة حقيقة هذه الابتسامة، ودعوته لمساعدة فقير، او محتاج لاجراء عملية جراحية عاجلة، او لتغطية تكاليف دراسة ابنه او ابنته.
في ظل هذا القلق، من الطبيعي أن يكون الجزع نتيجة اختبار الخسارة في السوق، او الرسوب في الدراسة، بيد أن الغريب –تقريباً- رد فعله السلبي إزاء الخير اذا أتاه، من رزق في التجارة، او نجاح في الدراسة، او في غيرها من جوانب الحياة، فهو يعد هذا منحة سرية نازلة له خصيصاً من السماء! ولا نصيب للآخرين فيها بأن يتعلموا –مثلاً- من تجاربه الناجحة فينجحوا هم ايضاً.
العطاء .. العلاج
كثيرة هي نصائح العطاء والبذل، وقليلة هي التطبيقات العملية لصعوبة مد اليد في الجيب او في المحفظة الالكترونية وشحن بطاقة أخرى بمبلغ لا بأس به لإنقاذ موقف في مستشفى او في جامعة، او حتى داخل بيت صغير آيل للسقوط، ولكن!
هذا هو الاختبار الكبير الذي يدعونا اليه القرآن الكريم لمعالجة واحدة من تلكم الصفات السلبية عند البشر، صحيح إنها صعبة، ولكن غير مستحيلة، فقد جربها كثيرون مما لم يكن من السهل عليهم البذل والعطاء، واذا بهم اليوم ينفقون مما يحبون بأرقام عالية.
إذا اختار الانسان لنفسه الانطواء على الذات بدعوى الحفاظ على مصالحه وحياته التي تعب من اجلها، وربما يتحدث البعض عن الحفاظ على الدين والأخلاق من الفتن! فهو يفتح على نفسه باباً نحو ظلام الكآبة
النجاح في هذا الاختبار يعني تمزيق حجب الانانية والانطواء، والقضية أراها ذات آثار مادية اسرع من الآثار المعنوية والأخروية العظيمة، فالانسان المنفق سيشعر بارتياح واطمئنان لانه نقل هذا الارتياح والاطمئنان والرخاء الى انسان آخر، فيتذوق طعماً جديداً للحياة غير ما كان عليه في حالة الانطواء وغلق الأبواب على نفسه.
وهذا الشعور الفطري بحد ذاته يعد نعمة إلهية للإنسان بأن يتخلص من أزمة نفسية خطيرة ربما تؤدي به الى ما نشهده اليوم من حالات الانتحار والتمزق الأسري في عديد دول العالم المدّعي للتحضّر والتقدم العلمي والتقني، وإلا ما الذي يجعل المتبرّع بأثاث منزلي، او مواد غذائية، او تسديد نفقات العلاج أو الدراسة، يشعر بالرضا والارتياح، كما ألاحظ دائماً ملامح البشاشة في وجوه من يعدون موائد الإفطار الجماعي وهم يرحبون بالصائمين مهما كان عددهم، أبسط تفسير لهذا؛ استشعار النجاح والربح في هذه الصفقة الإلهية.