أسس النبي محمد، صلى الله عليه وآله، أمة من أعظم الأمم في العالم، وأجهد نفسه وفق خارطة الوحي الإلهي لتكون أمته ذات شخصية قوية متكاملة، وأكمل أسس بقائها وتقدمها لتكون شاهدة على الأمم وحاملة لنور الإسلام للعالم فأمدها بنور الوحي والعلم ورسخ فيها التعاون والأخوة والتراحم وجعل مكارم الأخلاق مقياس التقدم الفردي والمجمتعي.
إلا أن النبي، صلى الله عليه وآله، اصطدم بالواقع الجاهلي المر الذي كان لا يزال يعشعش في قلوب بعض أصحابه وأتباعه ممن لم يطهّر الدين الجديد قلوبهم، فكانوا يضمرون النفاق ويظهرون الإيمان، وقد أطلع الله – تعالى- نبيه الكريم بما سيكون من أكثرية الأمة وانقلابهم على جوهر الدين وعروته الوثقى وهي الولاية والحكم الذي رسخه النبي، صلى الله عليه وآله، ليكون خالصاً بأمر الله للأئمة الأطهار من أهل بيته، عليهم السلام.
هنا نجد النبي الرحيم رغم ألمه بما سيحدث، وجه أمته لسبل الخلاص على المستوى الفردي والجمعي لئلا يتلوثوا بما سيقع من مظالم ويحاولوا أن ينقذوا أنفسهم من الفتن فوضع لهم بعض المآلات التي ستقع حتماً – والتي وقعت بالفعل – ليعرفوا طبيعة الواقع القادم وما يمكنهم تجنبه من المخاطر الأعظم.
في علم التخطيط والاستراتيجيات، يعتبر النبي صلوات الله عليه وآله مخططاً محنكاً وقديراً، فلأن الخطة الأولى والمثالية التي كان يجب على الأمة أن تسير عليها لن تتمكن من تطبيقها لتلوث بعض صحابته وانقلابهم على المسار الصحيح من بعده، فقد وضع لهم النبي الكريم الخطة الثانية، وهي خطة السير على طريق الحق، بما أوتينا من قوة واقتدار، الى أن ترجع الأمة الى مسارها الصحيح في آخر الزمان على يد حفيده الإمام المهدي، عجل الله فرجه الشريف، ونحاول في هذه الدراسة أن نبحث في بعض أحاديث النبي المختصة بمآلات الأمة وما ستكون عليه. ونبدأ بهذا الحديث.
الحديث الأول
«يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
هذا الحديث الهام يحمل مضامين خطيرة، وقد وقعت في الأزمان السابقة وفي زمننا المعاصر، وهو نبوءة مستقبلية قالها النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا إشارة لبعض تلك المضامين:
1. يُوشِكُ، فعل يفيد القرب والدنو. وهو إشارة لمستقبل قادم وكل قادم قريب، تنبأ به الرسول، صلى الله عليه وآله.
2. أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ، بأن يدعو بعضهم بعضًا للنيل منكم بالقتال والمواجهة وكسر شوكتكم، والسيطرة عليكم وسلب ثرواتكم. وهو تأكيد لقول الله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، (سورة المائدة: 5).
3. الأُمَمُ، إشارة للأمم الأخرى، ممن تضمر العداء أو تطمع في بلدانكم وثرواتكم بقرينة ما سيأتي.
4. كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، أي مثلما تتداعى الأكلة حين تجتمع على الطعام، وقال البعض؛ إنه إشارة الى الآكلين حين يجتمعون الى الوعاء الكبير الذي يوضع فيه الطعام، ولعل ذلك أقرب الى المعنى؛ والمقصود أن الأمم الأخرى تجتمع عليكم اجتماعاً بعد أن أصبحتم غنيمة سهلة فتمزقكم وتذهب قوتكم وتسلب ما لديكم من خيرات.
5. أنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، أي إن الأمة الإسلامية حين تتحقق مصاديق تلك النبوءة تكون مغلوبة منهارة لا بسبب قلة عددها، بل هي كثيرة العدد، إلا أن المسلمين يكونون ضعافاً لا يؤبه لهم، فحينذٍ يكونون كغثاء السيل الجارف وهو ما يحمله من زبد وأوساخ، وكأن الرسول، صلى الله عليه وآله، يقول: إنكم حينئذ لا تمثلون قوة حقيقية ثقيلة بما يناسب دوركم كمسلمين تؤمنون برب العزة.
6. يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، أي إن المهابة التي كان الأعداء يخافونكم بسببها، ينزعها الله من قلوبهم، فتصبحوا في نظرهم لا تمثلون وزناً معتبراً.
7. وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، أي بدل أن يهابكم الأعداء، تصبح قلوبكم واهنة ضعيفة، فتهابون عدوكم بدل أن يهابكم.
8. الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ، أي أن سبب وهنكم هو حب الحياة الدنيا وكراهية الموت وتقديم التضحية بالأنفس والمال في سبيل الله، فتقعدون عن قتال عدوكم؛ وهو دلالة على حالة إنعدام أوضعف روح الجهاد لدى الأمة، وغلبة التفكير المادي.
وبعد هذه المحاولة التقريبية لمعنى الحديث الشريف، نرى أن النبي، صلى الله عليه وآله، قد وضع يده على السبب الرئيسي لتكالب الأمم على أمته، وهو حب أكثر المسلمين للحياة الدنيا ومن ثم إنشغالهم بها وتكالبهم عليها وما يمثله ذلك من غلبة الجانب المادي على الجانب المعنوي وكراهية بذل التضحيات التي تتطلب شهداء وجرحى؛ ومن ثم أراد النبي من هذا الحديث تحذير أمته ووضع ما ينبغي عليه إن حدث ذلك.
ونتساءل، أليس هذا واقع الأمة، حين سيطر عليها المغول والتتار من قبل ثم الصليبيون وأخيراً الاستعمار الغربي وتكالب الحكومات الغربية وبالأخص الفرنسية والبريطانية والإيطالية على تقسيم البلدان الإسلامية ونهب ثرواتها وجعلها تابعة لهم وتمزيقهم للبلدان الإسلامية عبر الحدود المصطنعة التي وضعت وفق اتفاقية سايكس بيكو ثم تمكين الكيان الصهيوني الغاصب ليحتل فلسطين الى أن جاءت الولايات المتحدة وتابعت مسار السيطرة الاستعمارية. هكذا وصف الرسول الأكرم افتراس الأمم الأخرى واقع وبلدان المسلمين وتعاونهم عليها من كل حدب وصوب. فسيطر ذلك الاستعمار الغربي وتعاون وتداعى علينا بالاحتلال لبلداننا، وحين خرج منها عسكرياً بات يدير معظم بلدان العالم الإسلامي – عبر عملائه – ويتحكم فيها وينهب ثرواتها ويعبث بمقدراتها ويعيث فيها فساداً وقتلاً وتدميراً كما هو الحاصل طوال القرن العشرين والعقود التي نعيشها من هذا القرن الواحد والعشرين.
وها نحن نشهد تراجع الدول العربية بشكل واضح عن مقارعة الكيان الصهيوني والخضوع للولايات المتحدة الداعم الرئيسي له، بل نشهد حالة الضعف والاستسلام والهوان والانكسار أمام مخططات الأعداء والقبول بها، فبدل التضحية وشحذ الهمم والتداعي لتحرير فلسطين، نشهد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتقديم ثروات الأمة وخيراتها لتلك الدول المعادية حقاً للمسلمين. إنها حالة الهون التي تحدث عنها نبينا الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله. والمخرج من كل ذلك هو تقوية روح الجهاد في الأمة وتمكين الإسلام من الحكم وفق الأسس الصحيحة.
————————————