إضاءات تدبریة

تلقي العلم بين الليل والنهار

كيف نستطيع ان نتسنّم قمة الهدى ولا نتدحرج الى قاع الضلالة؟

قبل الخوض في هذا الحديث الهام، أمهّد له بما أوصي به عادةً طلبة العلوم الدينية، أقول لهم: ادرسوا نهاراً، لكن تلقوا العلم ليلاً، لماذا؟

أليس الله أنزل القرآن في ليلةٍ مباركة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ

ألم نقرأ قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً

أليس ربنا – سبحانه وتعالى ــ في ذات السورة يأمرنا بأن نرتّل القرآن ليلاً: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ

ويقول –تعالى- في موضع آخر: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً

فلماذا الليل وليس النهار؟

لأن الانسان يعيش دائماً في صراع بين عقله وهواه، بين ضغوط الحياة من جهة، وبين وجدانه ونفسه اللوامة وآيات الوحي من جهة أخرى، هذه الضغوط تزداد وتتصاعد فترة النهار، إلا انها تخبو حين يجنّ الليل ويعود المرء الى ذاته، فيأخذ قسطاً من الراحة فتسكن نفسه، ويقل تأثير تلك الضغوط عليه، ليكون ذلك فرصة مناسبة للوصول الى الحقائق، ولذا كان العرب سابقاً يقولون: “اذا اردت ان تتخذ قراراً فنم عليه”، وعندهم مثل آخر يقول: “أمرٌ دُبّر بليل”.

ميثاق الله

إذاً؛ نحن نعيش في طوفان من الأفكار المتضاربة والمؤثرات المختلفة وعلينا ان نختار، و “كما حبة حيّة طيبة يدفنها الانسان في التراب والوحل والسماء وسائر العوامل الطبيعية، ولكنها تنشط هناك وتتحدى وتخرج الى النور فتظهر إمكاناتها وتعطي ثمارها، كذلك لك واحد من أبناء البشر يحيط به ركام الخرافات ووحل الشهوات، فعليه ان ينشط ويتحدى، وأن يبلور جوهرته الإنسانية وان ينبعث خلقاً جديداً، وهذه هي المسؤولية الكبرى عند الانسان”(1).

وهو في نفس الوقت ميثاق الله الذي تعهد الانسان به من أول خلقه، ألسنا نعرف أنه في عالم الذر أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ففي ذلك العالم نحن جميعاً أعطينا ميثاقاً للرب بأن لا نغير كلمة التوحيد، لذلك ربنا يقول: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، هذه شهادتكم فلا تقولوا كنا في غفلة،وهذه الشهادة كتبت، وأمر الله ملكاً مقرباً من ملائكته بأن يتبعها شهدى كل الخلق.

ففي ذلك الموقف، كُتبت شهادات آلاف المليارات من البشر، وقد أودعت – حسب رواياتنا- في الحجر الأسود(2)، ولذا حين يطوف الحاج حول الكعبة ويصل الى حيث الحجر الأسود، يخاطبه قائلاً: “اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة”(3)، والحجر الأسود يشهد يوم القيامة أن فلاناً جاء وطاف وأدى الأمانة.

أي أمانة؟
أي أمانة هذه التي يقول عنها ربنا –تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.

إن البشر احتمل هذه الأمانة، وهي أمانة عظيمة، إنها أمانة التوحيد وعدم الشرك، ولعل هذه الأمانة هي التي تحمّلها كل انسان في عالم الذر بينه وبين الله في ذلك الموقف.

كما أن المشي على أرضٍ منحدرة يزيد في سرعتك بينما الصعود الى الأعلى متعب ومجهد، كذلك هو الانسان ينحدر مع شهواته بشكل سريع، لكن حينما يريد تحدي جاذبية شهواته يثقل ذلك عليه ويراه صعباً

وهنا نتسائل: كيف لنا أن نؤدي هذه الأمانة؟

قبل ان أجيب على هذا السؤال أقول: لعل هذه هي الفتنة الكبرى عند الانسان، فالانسان يولد ومعه هذه الأمانة التي لابد أن يؤديها، لذلك ربنا –تعالى- يقول للإنسان: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}.

فما هي هذه العقبة؟

لعلها نفس الإنسان! حيث عليه أن يتجاوز ذاته، ويتحدى ظروفه والضغوط التي تتوالى عليه، لكن لماذا سُميت هذه القضية عقبة؟

الجواب: كما أن المشي على أرضٍ منحدرة يزيد في سرعتك بينما الصعود الى الأعلى متعب ومجهد، كذلك هو الانسان ينحدر مع شهواته بشكل سريع، لكن حينما يريد تحدي جاذبية شهواته يثقل ذلك عليه ويراه صعباً، فتكون “عقبة” يحتاج الى قوة لاقتحامها وتجاوزها، وهذه المسؤولية الكبرى هي الفتنة التي يُفتتن بها كل إنسان.

الانسان بين قوى ثلاث

هناك ثلاث قوى تتدافع في داخل الانسان:

  1. قوة الشهوات، ويمثلها الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
  2. قوة العقل ويمثلها وجدان الانسان وضميره ونفسه اللوامة.
  3. قوة الإرادة، وهي التي ترجّح إحدى القوتين؛ فإما أن يختار العقل على الهوى، وإما العكس، وهذه القوة هي التي تمثل المشيئة التي وهبها الله سبحانه وللانسان.

ففي لحظة الاختيار يكون الانسان حراً بما للكلمة من معنى دقيق. نعم؛ هناك بعض العوامل الضاغطة على الانسان، ولكن من جهة أخرى هناك عوامل تقوي إرادة الانسان فكانها منشطات الإرادة.

ولكن كيف نقوّي الإرادة عندنا؟ فكم نجد من له رغبة في الصلاح الإصلاح لكن تخور ارادته ويهون عزمه في لحظة الاختيار! وكم شخص يتمنى ان يصوم نهاره ويقوم ليله، لكنه يضعف عنه! وكم من تائب يعود الى الذنب من جديد! فما هو الحل؟

الجواب: إن الإرادة تقوى بأمور كثيرة سنذكرها لاحقاً، لكن نذكر هنا عاملاً مهماً جداً، وهو “الارتباط” و”الاقتداء” بالنبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، وخصوصاً بسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين، عليهم السلام، فالله –تعالى- حين يقول في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، يضرب لذلك النور مثلاً: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}.

 وعندما نسأل: أين هذا المصباح؟ يأتي الجواب في الآية اللاحقة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}، وفي ذلك إشارة الى بيت النبي، صلى الله عليه وآله، والذي جاء في الحديث القدسي: “هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها”، ثم النبي الأكرم يوضح ذلك اكثر فيقول: “والذي بعثني بالحق نبياً إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض، وإنه لمكتوب عن يمين عرش الله –عزوجل: الحسين مصباح هُدىً وسفينة نجاة”.

سؤال: كيف يكون الامام الحسين مصباح هُدى؟

الامام الحسين بنهضته الكبرى، رسم صورة متكاملة للمسلم المجاهد، فهو مع كونه بشراً إلا انه قدم كل ما يملك، واستعد لكل تلك الآلام والمآسي، فصار قدوة للبشرية جمعاء.

فجميع البشرية، وبالأخص المسلمون والشيعة وأهل العزائم منهم، يجددون كل سنة عزاء سيد الشهداء، فيستمعون الى سيرته ومآسيه، ويستذكرون صبره واستقامته وايثاره وتضحياته، عند ذلك تتجدد عندهم الشجاعة، وتقوى لديهم الإرادة، فاذا ما واجه أحدهم ضغوطاً في حياته، سواء كانت من شهواته الداخلية او من الطغاة والمستكبرين، فانه يتحداها، وهذا يفسر موقف الشيعة وبالأخص علمائهم في مقاومة الطغاة على مدى التاريخ.

في لحظة الاختيار يكون الانسان حراً بما للكلمة من معنى دقيق. نعم؛ هناك بعض العوامل الضاغطة على الانسان، ولكن من جهة أخرى هناك عوامل تقوي إرادة الانسان فكانها منشطات الإرادة

نموذح من آلاف النماذج، هو المرجع الديني السيد يونس الاردبيلي(4)، حين منع شاه ايران الطاغية (رضا بهلوي) الحجاب، استدعاه وطلب منه فتوى بجواز كشف الحجاب، وتوعده بالقتل إن لم يفعل، فأجابه المرجع: اذا اعطيتك ما تريد لكي أحافظ على نفسي، كيف سيكون موقفي غداً امام الامام الحسين، عليه السلام، اذا قال: إني قدمت كل ما أملك في سبيل هذا الدين، وأعطيت حتى رأسي، فلماذا حافظت على حياتك وأعطيت هذه الفتوى كذباً؟! كلا؛ لا أفتي بما تريد، فقال له الطاغية: سأقتلك! قال: اقتلني، لكنه لم يفعل خشية ثورة الناس عليه.

ونموذج آخر هو المرجع الديني الشهيد عز الدين يحيى(5)، مثُل أمام طاغوت زمانه، فقال له: كيف ترى نفسك؟ قال: أرى نفسي كما الامام الحسين أمام يزيد، فقال له: اقتلك، قال: اقتلني، فاستشهد في سبيل الله –تعالى- ومرقده اليوم مزارٌ للمؤمنين في وسط طهران.

وكم من علمائنا عاشوا حياتهم في السجون والمهاجر، ولكنهم لم يتنازلوا عن شيء من الدين! لماذا؟ لأنهم اقتدوا بسيد الشهداء، واستمدوا منه العزيمة والإرادة، وكان ينقل عن الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر قوله: اذا زرت الحسين، عليه السلام، فاطلب منه ما شئت، لكن لا تطلب منه أن يبقى رأسك على جسمك، لأنه هو قد أعطى رأسه في سبيل الله.

ونحن نقرأ في زيارة الامام الحسين، عليه السلام: “أشهد أنك قُتلت ولم تَمُت”، فلا ريب أن الامام الحسين قُتل، صحيح أن بني أمية حاولوا التشكيك بشهادته بعد ما عرفوا عظم الفاجعة في نفوس الامة، فأشاعوا أن الامام لم يقتل بل رفعه الله الى السماء! كلا؛ الامام قتل أمام عشرات الآلاف ولكنه لم يمُت.

لذا نقول: “أشهد أنك قتلت ولم تمت، بل برجاء حياتك حَييت قلوب شيعتك”، فالامام مصباح هدى، لأن الموالين له –بل كثير من الناس غيرهم- تصلّبت ارادتهم وعزيمتهم عبر الاتصال بسيد الشهداء، عليه السلام، وبذلك قاوموا الشهوات وواجهوا الطغاة وتحدوا الجهل والجهالة، فهداهم الله –تعالى- بالحسين، وصار الامام الحسين بهدايته لهم سفينة نجاة.

ــــــــــــــــ

1- تفسير من هدى القرآن، ج3- ص138.

2- الكافي، ج4- ص184، باب بدء الحجر والعلّة في استلامه، ح1.

3-الكافي ، ج4- ص 403.

4-السيد يونس بن السيد محي الدين تقي بن السيد فتح علي الموسوي الاردبيلي، فقيه ومجتهد من كبار مراجع التقليد في زمانه في مدينة مشهد، كانت له الزعامة والرئاسة والإمامة والتدريس، توفي سنة 1377هـ.

5- يمكن مراجعة كتاب “حياة المرجع الشهيد عزالدين يحيى”، لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي. 

*أستاذ في الحوزة العلمية بمدينة كربلاء المقدسة، والمقال جزء من كتاب بصائر الوحي، حرره الشيخ اليماني في ضوء تفسير المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.

عن المؤلف

حيدر اليماني

اترك تعليقا