عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “إنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثم الوصيّون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه، وذلك أنّ الله –تعالى- لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن، ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عقله قلّ بلاؤه، وإنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقيّ من المطر إلى قرار الأرض”.
الانسان يتعرض خلال حياته للابتلاءات بشكل مستمر، تُرى هل هذا انتقام من الله أم تمحيصٌ، أم ماذا؟
سؤال يراود كلًّ منَّا، ولربَّما يعترض البعض على ما يُبتلى به، ولربَّما يراه ظلماً -حاشى لله-.
فيا ترى ما هو الابتلاء؟
ولماذا لابدَّ أن نُبتلى؟
ومن الذي يُبتلى؟
معنى الابتلاء
البلاء هو: الاختبار والامتحان في الحسن والقبح، فهو يكون في الخير والشر، بلاه يعني جربهُ واختبرهُ.
يقول الله تعالى: {بلاءً حسنا}، وقال سبحانه وتعالى: {وأن لوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.
واصطلاحاً: هو كل ما يُمتحن به الحق جل جلاله عباده، سواء كان بالمال أو الامراض، الغنى والفقر، المكانة والعظمة.
ويكون الابتلاء لتمحيص وتمييز الشقي عن السعيد، فهو قانون وسنّة إلهيّة شاملة لكلّ النّاس طالما أنّهم في دار التكليف دار الدّنيا، فالإنسان جُعل في دار الدّنيا لا لأجل الدّنيا فالدّنيا حياة ونشأة من نشآت الوجود الإنسانيّ يعبرها الإنسان في مدّة محدودة وقصيرة ليصير بعدها إلى دار مستقرّه ودار خلوده والدّار التي هي آخر منازله والمملوءة حياة، قال ــ تعالى ــ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}.
فالعالم الآخر معاييره ونظامه تُلائم كونه دار خلود وبقاء، وعلاقته بهذه الدّنيا علاقة النتيجة بالسبب، فهنا العمل وهناك الأثر، أي الجزاء الحقيقيّ، فالله قد ربط بين العالمين والنشأتين، من جملتها أنّه أقام علائق بين العمل في الدّنيا والجزاء في الآخرة.
فمعنى الابتلاء الإلهيّ للبشر هو تكليفهم بأمور الغرض منها إخراج ما في نفوسهم من استعدادات وقابليّات حسنة إلى مقام الفعل أي لتصبح أفعالاً خارجيّة لهم وصفات فعّالة في نفوسهم، فهو وسيلة لتفجير طاقات البشر وتطوير قابليّاتهم ليترقوا في الدّنيا ويتطوّروا، وكذلك ليبنوا أنفسهم بما يجعلهم من أهل الخلود في دار النعيم المقيم.
يقول عن ذلك أمير المؤمنين، عليه السلام: “… وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال التي بها تستحقّ الثواب والعقاب “.
من الذي يُبتلى؟
قال تعالى: {أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ}
فكلُّ المجتمعات البشرية تعرضت للإبتلاء عبر التاريخ، وهو يشمل المؤمن فكلَّما كان الإنسان أرفع مقاماً، كلَّما اشتدَّ عليه البلاء، لذلك أول المبتليين الانبياء والأئمة عليهم السلام، والابتلاء من سمات المؤمنين، فعلى الانسان أن يألف الابتلاء ويحذر الرخاء، فقد قال الإمام الكاظم، عليه السلام: “لن تكونوا مؤمنين حتّى تَعُدُّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وذلك أنَّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء”.
معنى الابتلاء الإلهيّ للبشر هو تكليفهم بأمور الغرض منها إخراج ما في نفوسهم من استعدادات وقابليّات حسنة إلى مقام الفعل أي لتصبح أفعالاً خارجيّة لهم وصفات فعّالة في نفوسهم
وقال الإمام علي، عليه السلام: “إِنَّ اللَّه يَبْتَلِي عِبَادَه عِنْدَ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وحَبْسِ الْبَرَكَاتِ وإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ ويُقْلِعَ مُقْلِعٌ ويَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ ويَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ”.
كما أنَّ أهل البيت، عليهم السلام، بيَّنوا الأجر الأخرويّ على البلاء، وبيَّنوا ضرورة التسليم لله في ذلك، وعدم الإنجرار إلى الاعتراض على الله، كما في قول رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: “إنَّ أعظم البلاء يُكَافَأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فمَنْ رَضِيَ قلبه فله عند الله الرضا، ومن سخط فله السخط “.
أمَّا غير المؤمن فابتلاؤه لا يكون اختبار ولا امتحان، وإنّما يكون عذاب وهلاك، كما عبّرت عنه الآيات القرآنية: {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}.
آثار وبركات البلاء
١ – في البلاء ألطاف خفيّة: عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ بلاياه محشوّة بكراماته الأبديّة ومحنه مورثة رضاه وقربه ولو بعد حين”.
٢ – تربية وعناية إلهيّة لأجل التكامل: عن النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله يغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها بالّلبن”.
٣- للتذكير به تعالى ولقمع التوثّب للكِبر: عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: “لولا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء المرض والموت والفقر وكلّهن فيه وإنّه لمعهن لوثّاب”.
٤ – تمحيص الذنوب: عن الإمام علي، عليه السلام: “الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدّنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعتهم ويستحقّوا عليها ثوابها”.
٥ – عدم الركون إلى الدّنيا والرغبة في لقاء الله تعالى: عن النبيّ الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم: “يقول الله عزَّ وجلَّ: يا دنيا تمرّري على عبدي المؤمن بأنواع البلاء، وضيّقي عليه في معيشته ولا تحلولي فيركن إليك”.
٦ – موجب لمحبّة الله وعلامة عليها:عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً وثجّه بالبلاء ثجّاً فإذا دعاه قال: لبّيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك”.
من الأمور التي تدفع البلاء:
١ ـ الاستغفار: لأن الانحراف والتمرد سبب من أسباب البلاء والعذاب، فإذا تاب الإنسان واستغفر فإنه يتّقي البلاء: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
٢ ـ الدعاء: فالله سبحانه يستجيب لعبده إن دعاه، فيرفع البلاء عنه، قال الإمام علي، عليه السلام: “ادفعوا أنواع البلاء بالدعاء، عليكم به قبل نزول البلاء”، ولذا جاء في دعائه (عليه السلام): “اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء”.
٣ ـ الصدقة: الصدقة وإن كانت لدفع البلاء، إلاّ أنها بنفسها مظهر من مظاهر التراحم في مجتمع المسلمين، والتراحم بنفسه يزيل البلاء ويدفعه، قال الإمام الباقر، عليه السلام: “إن الصدقة لتدفع سبعين بليّة من بلايا الدنيا”.
٤ ـ الالتزام بالتعاليم الإلهية: وهو الذي يضمن بقاء البلاء امتحاناً واختباراً إلهياً تكون نتيجته فوزاً للمؤمن، وليس نقمة منه.
جزاء الصبر على البلاء:
إن الله سبحانه يبتلي عباده ليمحّص قلوبهم وعقولهم، وليرى صبرهم على ذلك ويثيبهم الجنة التي حُفَّت بالمكاره، والبلاء بالشدة والضيق يعقبه الفرج لأن الله تعالى لا يكلف الإنسان فوق طاقته، قال الإمام علي، عليه السلام: “ما اشتد ضيق إلاّ قرّب الله فرجه”.
قال الإمام علي، عليه السلام: “ادفعوا أنواع البلاء بالدعاء، عليكم به قبل نزول البلاء”
واذا صبر الانسان على البلاء كافئه الله بالآتي:
١ ـ دخول الجنّة بدرجاته العالية: قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: “إن في الجنة درجة لا ينالها إلاّ أصحاب الهموم”، وقال الإمام علي، عليه السلام: “بالمكاره تنال الجنة، بالتعب الشديد تدرك الدرجات الرفيعة والراحة الدائمة”.
٢ ـ تمحيص الذنوب: قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: “ يقول البلاء كل يوم، إلى أين أتوجه؟ فيقول الله عزّ وجلّ، إلى أحبائي، وأولي طاعتي، أبلو بك أخيارهم، وأختبر صبرهم، وأمحّصُ بك ذنوبهم، وأرفع بك درجاتهم “
٣ ـ توفير الحسنات: قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: “يكتب أنين المريض، فإن كان صابراً كان أنينه حسنات”.
٤ ـ غفران الذنوب ومحو الخطايا: قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: “ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا”، وقال صلّى الله عليه وآله: ذهاب البصر مغفرة للذنوب، وذهاب السمع مغفرة للذنوب، وما نقص من الجسد فعلى قدر ذلك”.
وأهم من كل ذلك هو رضوان الله تعالى على المؤمنين الصابرين، لأنّ الابتلاء جعلهم يتوجهون إلى الله ويخلصون النيّة إليه، ويصلحوا ما فسد من أمورهم، وأفضل من البلاء كتمانه، واعتبر الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلم، كتمان المصيبة من كنوز البر: “ثلاث من كنوز البرّ، كتمان الشكوى، وكتمان المصيبة، وكتمان الصدقة”.
وفي النهاية فإنَّ الذي يُهدّئ الإنسان المؤمن، وحتى غير المؤمن إن كانَ عاقلاً؛ أن لا يرى نفسهُ مالكاً لشيء في هذه الدنيا، فهذا البدن مخلوقٌ للهِ -عزَ وجل- ورب العالمين أرادَ أن يبتليه بما يشاء من الأمراض.. والولد ملكٌ للهِ -عزَ وجل- فهو الذي صورنا في الأرحامِ كيفَ يشاء، وهو الذي أعطى وهو الذي أخذ، لذلك فإن هذا الاعتقاد يجعل الإنسان يرتاح، فيقول: إنَّا لله وإنَّا اليه راجعون ولا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم، و قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، لنتساعد على ثقافة الصبر على الابتلاء، ولنغير نظرتنا إليه فهو منحة وليس محنة.