لعلك رأيت شاباً يرتدي قميصاً وسروالاً فضفاضاً وقلنسوة رأس خضراء أو بُنية اللون من الصوف، وله شعر طويل مسدول على كتفيه، ويلبس مسبحة حول عنقه، وربما تجده يمسك صورة أو إيقونة لأحد الأئمة.
فهل قلت في نفسك: من هذا وما هي قصته؟
سيكون هذا الشخص غالباً متأثراً ببعض الأفكار الصوفية، ولنتعرف على الصوفية أكثر، سنبدأ بقصة من القرن الأول الهجري.
جاء رجل يُدعى؛ العلاء بن زياد الى أمير المؤمنين، عليه السلام، وقال له: أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال لبس العباءة وتخلى من الدنيا قال: عليَّ به.
فلما جاء، قال له أمير المؤمنين، عليه السلام: “يا عُدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحلَّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك، قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: ويحك إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره”. (نهج البلاغة)
وحالة أخرى يرويها لنا التاريخ عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قال: وَاللَّهِ لأَصومَنَّ النَّهَارَ، ولأَقُومنَّ اللَّيْلَ مَا عشْتُ، فَقَالَ له رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه: “أَنْتَ الَّذِي تَقُول ذلِكَ؟ فقال: قَدْ قُلتُه بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رسولَ اللَّه. قَالَ النبي الأكرم: فَإِنكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ، فَصُمْ وأَفْطرْ، ونَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحسنَةَ بعَشْرِ أَمْثَالهَا، وذلكَ مثْلُ صِيامٍ الدَّهْرِ.
جذور التصوّف في النصرانية واليهودية
ربما تكون هاتان القصتان من بدايات التوجه نحو التصوف عند المسلمين، لكن؛ ما هو التصوف؟
إنه حالة مشابهة للرهبانية عند النصارى واليهود، وتتلخص في اتخاذ طريق العبادة أو الطقوس كطريق أوحد لمعرفة الخالق، أو سلوك طريق العبادة لأجل الحصول على بعض الكرامات والخوارق، أو للهرب من الواقع المؤلم والابتعاد عن المسؤولية الحياتية، أو للشعور بالتميز في المجتمع والحصول على الاحترام والحب.
وسُميت بالتصوّف لأن معتنقيها يلتجؤون لارتداء عباءة من الصوف أو قلنسوة من الصوف كعلامة على خشونة العيش والزهد في الدنيا والابتعاد عن الملذات، وربما تكون لها علاقة تاريخية بخرقة الصوف التي يرتديها اليهود تحت ملابسهم (الطيلسان).
و حتى نتعرف على حقيقة التصوف وجذوره النفسية، علينا أن نعلم أن الكثير من المؤمنين يبحثون عن طريقة مضمونة لدخول الجنة، أو باختصار؛ يبحثون عن الراحة والسهولة في دخول الجنة، فيبحثون عن صلاة معينة أو ذِكر يذكرونه ليخلصهم من ذنوبهم أو ليضمن لهم دخول الجنة حتى تطمئن قلوبهم.
ولأنهم لا يتحملون بقاء قلوبهم معلّقة بين الخوف والرجاء؛ لذا تراهم يلتزمون بجانب معين من الدِين ويتركون باقي الجوانب، ويزعمون أن الجانب الذي تمسكوا به هو الجانب المطلوب وهو الدين كله ولا غيره.
نقول لمن مال قلبه نحو هذا الطريق؛ اترك التصوف وأطع إمامك، فأنت تعيش في عالم المُلك، ولا تحاول الهرب من عالم المُلك الى عالم الملكوت
وهذا الجانب أو الجزء من الدين يكون وسيلة إلى الله ولكنهم يحولونه تدريجياً إلى غاية، بتصوفهم ومبالغتهم في تقديسه فيتحول ذاك الجانب إلى مقدس أكثر من الخالق حتى.
فالبعض يأخذ جانب العبادة – مثلاً ــ ويترك جانب السياسة والعمل والتبليغ والاهتمام بالمجتمع والتعلم الديني، والبعض الآخر يأخذ جانب السياسة مثلاً ويترك أو يقلل من جانب العبادة والأخلاق والعلوم الدينية.
وهناك من يأخذ بجانب الشعائر الحسينية كالزيارة أو المشي، أو التطبير أو الشور ويعدها أساس الدِين وأصله وما عداها غير مُهم، أو يعد الدعوة إلى الدين أو الدعوة إلى التشيع هو أساس الدين وباقي الأخلاق والعلوم والعبادات أمر ثانوي، أو يأخذ قضية حب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، كشيء أساس بالدين وأهم من التوحيد والنبوة والصلاة والجهاد وهكذا.
كل هذا للابتعاد عن المسؤولية واختراع دين مناسب للشخص حسب ميوله وأهوائه الشخصية.
وهكذا كلٌّ يأخذ بطرف، بينما الدين المطلوب هو الدين الذي يوازن بين الدنيا والآخرة، والذي ينظر الى “الكادُّ على عياله؛ كالمجاهد في سبيل الله، يقول الحديث النبوي، والذي يكون قلب المؤمن فيه محصوراً بين الخوف والرجاء، وليس قلباً مطمئناً بدخول الجنة، لأنه قد وصل مرحلة التجلّي، أو لأنه قرأ الكثير من الأذكار، أو أدى صلاة معينة، فالحديث النبوي يقول: “لا تحتموا على الله الجنة”.
وأيضاً؛ لابد أن نعرف أن الله يريد أن يُعبد كما يشاء لا كما نشاء نحن، فالتفرغ بجزء من الوقت للعبادة والذكر والصلاة جيد، لكنه ليس كل شيء.
في الإسلام هناك عمل وهناك حياة و زواج وتجارة وتبليغ، والعبادة ممزوجة في كل ذلك، فـ”التبسم في وجه المؤمن صدقة”، والتصدق بالمال على الفقراء به أجر عظيم وهو من العبادة وكيف يتصدق من لا مال له؟!
إذن؛ في الإسلام يصبح العمل عبادة لله – تعالى ــ مثل الصلاة المستحبة، و ربما يكون أوجب من المستحبات، فالعبادة وسيلة الى الله وليست غاية من دون الله.
مراتب عالية وهمية وخوارق
للتصوف منهج ومراحل تبدأ من التخلّي عن الأخلاق الذميمة، وتمر بمرحلة التحلّي بالأخلاق الفاضلة، وتنتهي بالتجلّي الذي له عدة تفاسير؛ فمنها أنه تتجلي الحقائق أمام الشخص السالك أو المتصوف أو العارف، ومنها؛ بمعنى تجلّي الله للشخص، والعياذ بالله.
يقسّم التصوف الناس إلى عدة أصناف؛ فصنفٌ هم أهل الشريعة الذين يتعلمون الحلال والحرام، وصنفٌ هم أهل الطريقة، وهم الصوفية المبتدئين الذين لم يصلوا إلى الدرجات العالية، و مازالوا في الطريق، وقسم هم أهل الحقيقة الذين تجلّت لهم الحقيقة، كما يزعمون، وهي حقيقة الله، أو حقيقة الكون، أو حقيقة العباد، ولذلك تظهر على أيديهم كرامات أو معجزات أو خوارق معينة.
هذه الخوارق لا تدل على صدق فاعليها، ولا علمهم ولا إيمانهم، فمن السهل أن يخالطها السحر بأنواعه، أو الخُدع الكثيرة، ولا تعد حجة في الشرع.
لذا نقول لمن مال قلبه نحو هذا الطريق؛ اترك التصوف وأطع إمامك، فأنت تعيش في عالم المُلك، ولا تحاول الهرب من عالم المُلك الى عالم الملكوت.
لابد أن نعرف أن الله يريد أن يُعبد كما يشاء لا كما نشاء نحن، فالتفرغ بجزء من الوقت للعبادة والذكر والصلاة جيد، لكنه ليس كل شيء
وقد واجه أهل البيت النبوي هذا الاتجاه بالكثير من الأحاديث التي تقارن بين أهمية العلم مقابل العبادة ومنها؛ قال الرسول الأعظم، صلى اللّه عليه وآله: “فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة”. (بصائر الدرجات).
وعن رسول الله، صلى الله عليه وآله: “قليل العلم خير من كثير العبادة”، وقال ايضاً: “فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر”، وقال، صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين، عليه السلام: “يا علي! نوم العالم أفضل من عبادة العابد، يا علي! ركعتان يصليهما العالم أفضل من سبعين ركعة يصليها العابد”، (ميزان الحكمة).
وقال، صلى الله عليه وآله: “نوم مع علم خير من صلاة مع جهل”، وعنه، صلى الله عليه وآله: “ساعة العالم يتكئ على فراشه ينظر في علم خير من عبادة سبعين سنة”، وقال ايضاً: “فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد”. (شرح رسالة الحقوق، السيد علي الميلاني).