مهما سطر القلم في مزاياها يقف عاجزا وهو حسير؛ انطلقت السيدة زينب، عليها السلام، في بنائها الذاتي ورساليتها، من اشرف بيت رسالي، ألا وهو البيت الذي بناه الإمام علي ع مع السيدة الزهراء، عليها السلام، في ظل رسول الله، صلى الله عليه وآله، الذي أضفى على هذا البيت المبارك رعايةً خاصة، لأنه كان يعيش في عقل أفراد هذا البيت، وفي نبضات قلوبهم، فهم تربيته وصناعته.
والسيدة زينب، عليها السلام، هو سماها وأحبها، وكان يتوسم فيها شخصيةً تحمل عطر هذا البيت وهكذا كانت، فهي حملت رسالية رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأخلاقه، وشجاعة أبيها علي، عليه السلام، وعبادة أمها وعلمها، وهدي أخويها، وانطلقت إلى الحياة تحمل طهر البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً. وبذلك استطاعت أن تبني في داخلها شخصية متنوعة المزايا؛ فكانت العالمة والعابدة التي لا تترك صلاة الليل حتى في أشد الساعات حراجة، كما في كربلاء.
وكانت الموجهة والمعلمة للقرآن، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، والتي كان صوتها لا يرتفع إلا بالحق في كل الأماكن العامة والخاصة، لتكون بذلك سنداً وقوة للإسلام.
وقد أخلصت لزواجها وابن عمها عبدالله بن جعفر الذي أخلص لرسول الله وأهل بيته، وكان يقف المواقف الصلبة تجاه الانحراف الأموي، وهو لم يشارك في كربلاء لمرضه لا لعدم رغبته في ذلك، ولذلك أرسل ولديه محمد وعون مع أمهما للمشاركة في هذا الواجب الكبير، فكانت الأم المربية التي خرجت للمجتمع مجاهدين رساليين خرجوا معها إلى كربلاء وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته ثم استشهدوا مع إمامهم وخالهم الإمام الحسين، عليه السلام.
بعد أن هجرت السيدة زينب، عليها السلام، عنفوان معركة كربلاء، التي فجر بركان احتباسها شهيد كربلاء الإمام الحسين، عليه السلام، تولت بإلهامها القدسي وحدسها الرسالي وقوة شكيمتها الإيمانية، تحويل حممه المصهورة إلى مصبٍّ أحرق الأخضر واليابس من عليق الضلالة والفجور، وجاءت صرختها المدوّية لتكمل مسيرة التحول الجذري الكبير للعقيدة التي كادت تندثر بعوامل من صنع الهراطقة والنفعين والذين ينعقون مع كل ناعق.
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره قبل أن يستفحل الغي ويتحول الدين إلى مذاهب فيغدوا أدياناً وتثور نفوس وتنحل أخرى، فوضع ملكات ومقامات رفيعة في شخص السيدة زينب، عليها السلام، وإعلامها المنزه من الدعاية والافتراء.
السيدة زينب لم تظهر الانهزام والإنكسار حين وصفت ما جرى عليها بالشيء الجميل “ما رأيت إلا جميلا”، وذلك هو صلابة الموقف التي عز نظيره في مجلس الطاغية يزيد
وبما أن العملية الإعلامية هي فكرة ومنهج، فهي تستند إلى قواعد أساسية تشكل حجرها الأساس، ويتحدد تبعاً لقوتها وضعفها نجاح أو فشل عملية الاتصال الإعلامي والإقناع بالفكرة.
إذ إن من أهم عوامل وأسباب نجاح المهمة الإعلامية، يتحدد وفقاً لتوفر أربع شروط :
١- ماهية الرسالة.
٢- الظروف المحيطة.
٣- شخصية المصدر وأهليته .
٤- وسيلة الاتصال والأساليب المتبعة في إيصال الرسالة. (الشيخ مرتضى المطهري، الملحمة الحسينية، ج٣، ص: ٣١٢)
وهذه العوامل قد تجلت بوضوح في الدور الإعلامي للعقيلة، عليها السلام، في واقعة عاشوراء، مما ضمن هذا النجاح الباهر والمميز على صعيد الإعلام التبليغ لمبادئ النهضة الحسينية في عاشوراء، إضافة إلى تميز الإعلام الزينبي بخصائص عديدة:
- الاستيلاء على الموقف بإشارة واحدة، وروح قوية ونفس مطمئنة حين “أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكتت الأجراس”. (السيد محمد كاظم القزويني، كتاب السيدة زينب الكبرى من المهد الى اللحد، ص١٣٩)
- عدم إظهار الانهزام والإنكسار حين وصفت ما جرى عليها بالشيء الجميل “ما رأيت إلا جميلا”، صلابة الموقف التي عز نظيرها في مجلس الطاغية يزيد.
- اضطلاعها واستشهادها الواسع بالآيات القرآنية حتى رأى أهل الكوفة فيها أمير المؤمنين علياً، عليه السلام، عندما كان يخطب كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين
- ابراز العزة الإيمانية ( وهي من أبرز صفات الإعلامي المبدئي) حين دعت على اللعين ابن زياد بالموت وذكرته بنسبه غير الشريف بقولها ثكلتك أمك يا بن مرجانة الخطاب الغني بالبلاغة دلالة على اكتناز العلم والثقافة والاستقرار النفسي المفعم بالقوة والثقة بالنصر، وخير ما يمثل ذلك هو قولها خالد الذكر ” فكد كيدك وأسع سعيك فو الله لا تمحو ذكرنا “.(مقتل الإمام الحسين ع لابن طاووس ص٢٠٧)
- الانتماء للقضية الحسينية، والدفاع عنها بعقيدة وثبات.
- الحرص والتأكيد على أن المؤمن، وإن هزم في جولة، فإنه لا يفقد
- عزته وإباءه وصلابته في مواجهة الظلمة.
- الاتكال على الله وحمده في كل حين، وإظهار الرضا التام بحكمه وقضاءه.
- الثقة العالية بالنفس؛ لأن ثقة الإعلامي بمصدر رسالته الإعلامية من المسائل الجوهرية والحساسة في العملية الإعلامية كون المصدر هو ركن من أركان الإعلام الأساسية، خصوصاً إذا كانت الرسالة هي رسالة مواجهة وتحد كما في رسالة العقيلة زينب في مجلس الطاغية يزيد.
فهذا الإعلام الراسخ القوة ــ الإعلام الزينبي ــ انطلق إزاء الهجمة الأموية الشرسة من الإعلام الأموي على الإسلام المحمدي الأصيل، الداعي إلى إعلاء صوت الحق في وجه من يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وقد أبى الله حقاً إلا أن يتم نوره ولو كره الأمويين الذين اعتمدوا في سياستهم التعتيم والتظليل واستغفال العقول والقلوب الضعيفة.
و هذا ما يفسر قبول طيف واسع من المسلمين ما ردده الإعلام الأموي وربط حادثة كربلاء مع ابن نوح وشتان بين الموقفين.
إن ما جرى في كربلاء من فاجعة كبرى متمثلة بمقتل ابن بنت النبي وريحانته، يجعلنا نتساءل وبتعجب عن سبب قبول الأمة الإسلامية بهذه الجريمة وسكوتها وهي قريبة عهد بجده و مازال صوته يرنُّ في أسماعها فكيف رضيت إزاء ذلك مع التزامها الصمت؟! وما هي السياسة المتبعة من قبل الإعلام الأموي حينذاك، التي مكنته من تزيف الحقائق؟
بما إن الإعلام الأموي ــ إعلام الطلقاء ــ استطاع بما يملك من قوة وبطش وترغيب وشراء الذمم، وبث الخوف والرعب بين أبناء المجتمع ونشر الشائعات، استطاع أن يرسخ في أذهان المسلمين أن الإمام الحسين، عليه السلام، خارجي خرج على إمام زمانه فلقى جزاءه.
وهذا بدوره أدَّى إلى تضليل الناس من قبل الواجهات من رجال الدِين، الذين استغفلوا المجتمع الإسلامي آنذاك، وعملوا على طمس الأحكام الإسلامية التي جاء بها الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله، على المسلمين حتى نسيت واستأصلت من الأذهان، واشتهرت بين المسلمين الاحكام التي اجتهد بها الخلفاء، وانتشرت باسم أحكام الإسلام في جميع البلاد الإسلامية على وجه الأرض، من اليمن إلى الحجاز، والشام، والعراق وأقاصي ايران ومصر إلى أقاصي أفريقيا، وهل توقف هذا الإعلام اليوم وهو يشاهد ملايين العشّاق يتوافدون من أرجاء المعمورة ام اتخذ نفس سيرته الاولى؟ فهو لا يجاهر بمحاربة أهل البيت، عليهم السلام، جهارا، فيصب نار حقده على أنصارهم ومحبيهم.
و هكذا كان موقف السيدة زينب، عليها السلام، شجاعا في الشام أمام الطاغية يزيد حيث راحت تقرعه وتتحداه بأنه لن يستطيع أن يوقف هذه الرسالة ويميت ذكر أهل البيت والدور الذي يقومون به، ولذلك قالت: “ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك، إلا أنني لاستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا”.
إذن علينا أن نرتفع إلى المستوى الكبير الذي مثلته هذه البوة الجريحة العقيلة زينب التي قدمت النموذج الأعلى في الصبر والتضحية والمواقف الصلبة، وهي ليست أنموذجاً للنساء فقط، بل هي أنموذج للرجال أيضاً وللمجتمع كله في تحدي الظالمين وكل الطغاة.
ولذلك، عندما نزور السيدة زينب، عليها السلام، في مرقدها بالشام، لابد من أن نتمثلها في المدينة وفي كربلاء وفي الكوفة والشام، في كل مواقفها، وكيف انطلقت وتحركت وصرخت في وجه عمر بن سعد و ابن زياد ويزيد وكل المتخاذلين الذين خذلوا الإمام الحسين ومن معه.
علينا أن نرتفع إلى المستوى الكبير الذي مثلته هذه البوة الجريحة العقيلة زينب التي قدمت النموذج الأعلى في الصبر والتضحية والمواقف الصلبة، وهي ليست أنموذجاً للنساء فقط، بل هي أنموذج للرجال أيضاً وللمجتمع كله في تحدي الظالمين وكل الطغاة
ورحم الله الشاعر وهو يصف يزيد واستهتاره بكل القيم:
وأصبح الدين يشتكي سقما
وما إلى أحد غير الحسين شكا
فما رأى السبط للدين الحنيف شفا
الا إذا في دمه في نصره سفكا
وما رأينا عليلا لا شفاء له
الا بنفس مداويه اذا هلكا
بقتله فاح للاسلام نشر هدى
فكلما ذكرته المسلمون ذكا
فالسلام على السيدة زينب يوم ولدت، ويوم انطلقت بكل تضحياتها، ويوم ذهبت إلى رحاب ربها، ويوم تبعث حية شهيدة مهتضمة.