ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (54) شجاعة الروح أم شجاعة البدن؟

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “وشجاعته على قدر أنفته”

بمقدار ما يكون الانسان أنفا؛ اي يشعر بالعزة، بنفس المقدار عنده شجاعة، وبمقدار ما عنده شعور بالذل والحقارة، بمقدار ذلك يشعر بالجُبن والخوف، فهو مستعد أن يعطي كل شيء للحفاظ على نفسه.

وهناك نوع آخر يعطي كل شيء للحفاظ على عزته “والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد”، بهذه الكلمات خاطب الإمام الحسين، عليه السلام، أعداءه، فهذه كلمات تنبئ بالتضحية بكل شيء للحفاظ على جوهر الانسانية وكرامتها، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “على قدر الحمية تكون الشجاعة” فمن يمتلك نسبة من الحمية يكون بقدرها نسبة الشجاعة، فمثلا يمتلك 10% شجاعة بمقدارها يكون شجاعا.

هنالك أناس لا يبالون بما قالوا، ولا بما قيل لهم، يريد ان يعيش وحسب التعبير اللبناني (بدنا نعيش) فليس المهم عند هذا الشخص ان يعيش كالحمار، او كالانسان، فالمهم ان يأكل ويشرب، ولديه شهادة ووظيفة، فالخبز الذي يحصل عليه، ليس مهما ان يكون مغموسا بالدم، ودموع الايتام، فهذا عنده بطن، وفرج، وأُذن..، لكن لا عزةَ ولا كرامةَ لديه.

الذي يمتلك الشعور بالعزة والانفة والحمية يكون شجاعا لانها تكون الاصل عنده، وليس بطنه، إنسان يعيش في مجتمع قد حسب على الناس انفاسهم، فحين يريد الانسان السفر، او العمل، او يريد الدراسة فهو مهان ذليل، ولا يحصل حتى على دفتر الإ مغموسا بالذلة! لكن الانسان العزيز يريد الخبز، والعمل مع عزة وحرية.

حينما يأتي الطاغوت يحوّل البلد الى حديقة حيوانات؛ الحيوانات فيها البشر، و الاقفاص فيها القوانين الجائرة، فقطعة ارض يعيش عليها ويموت فيها لا يحصل عليها الانسان إلا بذل، وان يريق ماءَ وجهه عشرات المرات؛ فعلى توقيع واحد ربما يحتاج سنة كاملة يمر عبر اناس لا كرامة، ولا عزة لهم في الحياة، وهذه الحياة لا قيمة لها وعلى الانسان السعي الى تغييرها.

الذي يمتلك الشعور بالعزة والانفة والحمية يكون شجاعا لانها تكون الاصل عنده، وليس بطنه

والله ــ تعالى ــ في بعض الاحيان لا يتدخل حتى في صالح الايمان في قلوب الناس {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فالله لا يجبر الانسان على شيء بالقوة، لكن ـــ الانسان ــ في ذات الوقت يقبل القهر والذل من الطاغوت، قال الإمام الصادق، عليه السلام: “إن الله اوكل الى عبده المؤمن كل شيء ولم يوكل له أن يذل نفسه”.

الشجاعة سور للعزة فإذا لم توجد الشجاعة فلا سور أصلا، وبمقدار ما نشعر بكرامة الوطن، والمبادئ، وكرامة الاهل، بنفس المقدار تكون الشجاعة بمقدار الذب عنها وصونها، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “الشجاعة عزٌ حاضر والجبن ذل ظاهر”.

وقال عليه السلام: “الشجاعة احد العزَين”،  فهناك انسان شجاع يصل الى الظفر بالنصر، وحتى لو لم يصل فتبقى شجاعته عزّا له، فالامام الحسين، عليه السلام، لم ينتصر على عدوه في معركة عاشوراء ظاهرا( عسكريا)، لكنه انتصر عليه حضاريا فبقي عزيزا واشترى العزّة بدمه في سبيل الله.

الشجاعة والسيطرة على النفس

 و الشجاعة بالدرجة الاولى هي شجاعة الروح؛ وهي ان يمتلك الانسان نفسه، لانه إذا امتلكها امتلك كل شيء، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “اشجع الناس من غلب هواه”، فمن يغلب هواه هو الشجاع وهو الذي يستطيع ان يقارع الأقران، واقوى شهوة لدى الانسان هي الحياة، فمن يمتلك رغباته وشهواته يستطيع مقاومة شهوة الحياة، فيقاتل ويُقتل.

والشجاعة ايضا، شجاعة القلب في مواجهة الاهوال، وشجاعة العقيدة في مواجهة الافكار،  وشجاعة الالتزام في مواجهة عوامل الانحراف.

وهذه الشجاعة تجلّت عند نبي الله ابراهيم الخليل، عليه السلام، حينما حطّم الاصنام، وشجاعة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في مواجهة قريش، وشجاعة أمير المؤمنين، عليه السلام، إذ كانت شجاعته وحميته بقدر أنفته وغيرته، وهو القائل: “لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها ولو امكنت الفرص لسارعت اليها”.

الامام الحسين، عليه السلام، لم ينتصر على عدوه في معركة عاشوراء ظاهرا( عسكريا)، لكنه انتصر عليه حضاريا فبقي عزيزا واشترى العزّة بدمه في سبيل الله

وفي يوم عاشوراء قال حميد بن مسلم، يصف الإمام الحسين، عليه السلام: فوالله ما رأيت مكثورا (الذي أحاط به الكثير) قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى جنانا منه عليه السلام، إن كانت الرجّالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم، ولقد تكملوا ثلاثين ألفا، فيهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.

فمن نُقشت في قلبه كلمة ” لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” لا يخاف من حول الطاغوت ولا من قوته، وسيقف كما وقفت السيدة زينب، عليها السلام، وخاطبت طاغوت زمانها: “أمن العدل يا ابن الطلقاء”، فمن ينتمي الى النبي الاكرم، وامير المؤمنين، وأهل البيت، لابد وان يتمتع بشيء من شجاعتهم.

________

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا