فکر و تنمیة

ما هي الحدود الفاصلة بين النقاش المثمر والجدل العقيم؟

ما أكثر النقاشات التي يخوضها الافراد في حياتهم اليومية، فلا يكاد تمر ساعة على أحدنا من دون أن يكون طرفا مشاركا أو على الأقل حاضرا أو مشاهدا لنقاش ما، ويبقى العامل المشترك والشيء الأكيد بين أغلب هذه النقاشات هو أنها تبدأ نقاشات تتسم بالهدوء، ومن ثم تنتهي إلى جدل عقيم لا تكاد تخرج منه بثمرة نافعة إلا في أدنى الحدود، حين لا يكون هناك مفرٌ من التوافق على شيء ما؛ كي تستمر عجلة الحياة في الدوران لينتهي اليوم.

الطريف في الموضوع فعلا أننا دوما نبدأ بنية النقاش الهادئ البناء المرتكز على حقائق علمية ملتزم بقواعد الحوار الهادف، ولكننا ننتهي في أغلب الأحيان إلى الجدل المحتدم دون أن نلحظ تلك النقطة التي تحول فيها الأمر من نقاش سلمي متحضر إلى جدل مُسلحٍ في بعض الأحيان، يضطر الحاضرون من المحايدين الى التدخل مباشرة لفض النزاع وعودة الأجواء الى هدوءها السابق.

أغلب النزاعات المسلحة في العالم ما هي إلا شكل عنيف من أشكال الجدال

يحدث النقاش في المنزل، وفي العمل، وفي المدرسة، وفي الشارع، وعلى شاشة التلفاز، وطبعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتكون نقاشات مستمرة تنتهي بك دوما وأنت تشعر أنها كانت وكأنها حلقة أخرى من برنامج الاتجاه المعاكس لا ينقصها إلا أن ترى مقدم البرنامج هنا أو هناك يفصل بين المتناقشين أو المتجادلين بتعبير ادق مع فارق انه في البرنامج الحقيقي يكون المسبب للجدال هو المقدم نفسه!

ربما يكون من الطبيعي ان يؤدي الإعلامي دوره في إثارة الضيوف ليخرج ما يتمناه ويحقق نسبة مشاهدات ومتابعات لبرنامجه او حلقته من خلال البحث عن الحقيقة ووضعها امام المتلقين، وهذا هو ديدن البرامج الحوارية التي غالبا ما ينتهي وقتها ولا نعرف الفكرة او المحور الرئيس لها، ولم يبقى عالق في اذهاننا سوى العبارات الخادشة التي لا تنسجم مع الذوق العام.

وإذا كانت وظيفة الإعلامي هي الإثارة والبحث عن منطقة رخوة لدى الضيوف، فلماذا تحولت نسبة كبيرة من حواراتنا ونقاشاتنا اليومية الى نسخة من البرامج الحوارية غير المجدية المرتكزة على الأفكار المستهلكة.

ونظرا لما تقدم طرحه يجب ان تكون حواراتنا ونقاشنا اليومي ينتمي بالدرجة الأولى الى لغة العقل والمنطق، بعيدا عن الجدال الذي لا ينتهي في أحسن احواله الى شيء علمي مفيد ورصين هادف يقدم خدمة للمجتمع الحاضر، وليس من الصحيح أن يكون الحوار عبارة حلبة صراع يسعى كل طرف من اطرافه الى اثبات الذات وعدم التراجع عن أفكاره ووجهة نظره وان كانت خاطئة.

إنني لا أبالغ كثيرا هنا، فإن شئت الحقيقة الكاملة فإن أغلب النزاعات المسلحة في العالم ما هي إلا شكل عنيف من أشكال الجدال، بعد أن تعبر الأطراف نفس تلك النقطة التي يتحول فيها النقاش المتحضر إلى جدال عقيم لا تحسمه إلا القوة أو الفصل بين المتحاربين.

فما هو ذلك الحد الفاصل الذي يفصل بين النقاش والجدل؟

إن السبيل إلى الحوار المثمر الذي يخرج الجميع منه بنتائج مفيدة حتى وإن لم تكن النتيجة اتفاقا بينهم في الرأي، يبدأ من الاحترام المتبادل ثم الفهم المتبادل، وكلاهما يبدأ من الذات أولا ثم يمتد للآخر تاليا، والنقطة التي تتحطم عندها هذه الأبجديات، هي اللحظة التي تظهر فيها آفة الشخصنة وآفة التماهي مع الرأي، وكلتا العلتين وجهان لعملة واحدة، هي انعدام التمييز بين ذوات الأفراد وآرائهم.

الشخصنة من طرف تقود إلى التماهي مع الرأي من الطرف الآخر والعكس صحيح، فحين يخلط المرء بين رأيه وذاته، ولا يتمكن من تمييز الحد الفاصل بينهما فإنه يَعدُّ كل معارضة لرأيه هجوما على ذاته، يستوجب الدفاع باستماته عن الرأي وعن ذاته في نفس الوقت.

ففي الشخصنة يخلط المهاجم أو المعارض لرأي ما بين الرأي وصاحبه فتراه بدلا من أن ينتقد الرأي بذاته يهاجم الشخص نفسه ولو بشكل غير مباشر عن طريق التعريض واللمز، والبعض يتخطى ذلك إلى الهجوم المباشر الصريح. وتكون ردة الفعل الطبيعية أن يتولد عند صاحب الرأي محل الهجوم رغبة في الدفاع عن شخصه إما بتفنيد التهمة المنسوبة لذاته أو بإقامة حاجز دفاعي من التماهي بينه وبين رأيه يجعله يصر على الذود والدفاع عن رأيه.

حتى وإن أدرك في لحظة ما أنه مخطئ، فإنه سيواصل القتال لأنه بدلًا من مجرد التصدي للهجوم على آرائه فإن الأمر هنا صار هجومًا على ذاته نفسها، وهنا تصبح ذاته ورأيه في ذهنه أمرين مترادفين سقوط أحدهما يستدعي في عقله سقوط الآخر بالضرورة، إنه الآن يتصدى لهجوم مباشر على ذاته ولتهديد مفترض لكيانه تتضاءل أمامه غريزيًا أهمية التواصل أو البحث عن الحقيقة.

ويفترض جدلا في اللاوعي أن الدفاع يقتضي الهجوم على شخص الطرف المقابل بدلا من مقارعة الحجة بالحجة في الرأي موضوع الخلاف، مما يؤدي إلى تفعيل الآليات الدفاعية عند الطرف الآخر، وهلم جرا تستمر دوامة الشخصنة والتماهي والجدل العقيم الذي ينتهي إلى الفشل في التواصل وإلى طريق مسدود.

في الشخصنة يخلط المهاجم أو المعارض لرأي ما بين الرأي وصاحبه فتراه بدلا من أن ينتقد الرأي بذاته يهاجم الشخص نفسه ولو بشكل غير مباشر عن طريق التعريض واللمز

والمؤسف أن هاتين السمتين صارتا جزءا لا يكاد يتجزأ من شخصية الكثيرين، وليس مجرد عرض مؤقت يحدث أثناء النقاشات وينتهي بانتهائها، بل إنه أصبح طريقة تفكير وحياة حيث يصبح المتماهون مع آرائهم أكثر راديكالية وعنفا في مواقفهم عموما، ولهذا السبب نجد صعوبة في إجراء أي مناقشة معقولة مع واحد من هؤلاء، إذ إنهم أذابوا آراءهم في ذواتهم، ولم يعد بإمكانهم فصلها.

إن أي محادثة مع مثل هؤلاء عادة ما تكون مؤلمة جدا، فهم عادةً عنيدون، ونادرا ما يستمعون، ويميلون بلا هوادة إلى إطلاق صواريخهم المضادة للطائرات ضد كلماتك قبل أن تهبط في أذهانهم، ومن شدة هذا التماهي مع آرائهم يصلون إلى أن يؤمنوا بداخلهم وبطريقة ما بأنهم يحملون الحقيقة ويجب أن يسير التواصل في اتجاه واحد، بينما الاتجاه المعاكس هو فقط لإكمال ديكور الحوار، ولكن ليس لإبداء أي اختلاف أو معارضة حقيقية.

باختصار شديد؛ فإنه في أي نقاش وحين يشعل أحد الطرفين عن قصد أو دون قصد نار الشخصنة أو التماهي وكلنا عرضةٌ لذلك مهما اجتهدنا، فإنه من الضروري إطفاؤها أولا بالتوضيح والتذكير اللطيف قبل أن يستمر النقاش، وإلا وجدتَ نفسك من جديد ضيفا على حلقة جديدة من مسلسل الحوارات التي تدور في دائرة مفرغة.

عن المؤلف

سُرى فاضل

اترك تعليقا