قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “وصدقه على قدر مروءته”.
أن يكون الانسان صادقا في مواقفه، وسلوكه، وحديثه، سبب ذلك امتلاكه للمروءة، فبمقدار ما يكون المرء مالك لعزّة النفس، وشاعرا بأن له كرامة في هذه الأرض، بذات المقدار يكون صادقا مع نفسه ومع الحياة.
الذي يمنع نفسه عن الدناءات يحرّم عليها الخبائث، ولا توجد خبيثة اكبر من أن يكون الانسان كذّابا، سواء في حديثه ام في مواقفه.
فالانسان الذي يشعر أن له كرامة لا يبيعها رخيصة، والبعض لا يعرف ان له كرامة فيبيع نفسه بالمجان لكل شارٍ، إلا ان الانسان الذي يعرف انه له كرامة يعرف قيمتها، فالمروءة هنا بمعناها العامة الذي يعرفه كل إنسان؛ أي يكون الفرد صاحبَ عزة نفس، وكرامة وما اشبه.
مَن يشعر بعزة نفسه سيكون صادقا، لان الكذب دناءة، سواء كذب الحديث، ام كذب الموقف هذه وغيرها دناءات، والانسان الذي لا يوثق بكلامه منبوذ في المجتمع، فالذي لا يوثق بوعده دنيئ بمعنى لا كرامة له، وبمقدار احترام الانسان لنفسه يكون صادقا مع الناس، ومن لا يقيم احتراما لنفسه يكذب على الناس.
من يرفع نفسه عن الدناءات ليس مستعدا ان ينحرف عن السلوك وان يكون كذّابا
ومن هنا جاء قوله ــ تعالى ــ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، وقال ــ تعالى ــ: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ}، ولا يقتصر الصدق على الكلام فقط، وطبعا من يصدق في كلامه سيصدق في بقية الامور.
يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه الصدق، لانه في الدنيا قد لا ينفع الصدق بل قد يضر، فكم من إنسان في السوق يكذب ويدجل على الناس، وحينما يقال له: لماذا الكذب؟ يقول: الصدق يضر!
من يرفع نفسه عن الدناءات ليس مستعدا ان ينحرف عن السلوك وان يكون كذّابا، قال امير المؤمنين، عليه السلام، في وصف المروءة: “أول المروءة طاعة الله” فالله الذي خلق الانسان وربّاه ورزقه وأعطاه القوة والنشاط، فإنسان لا يطيع الله على اقل التقادير لا مرؤة عنده، وقد سئل رسول الله عن عبادته المتواصلة لله، فقال: أفلا اكن عبدا شكورا.
إذا قدّم إنسان لآخر كوبَ ماء فمرؤة المقدم اليه وكرامته ورجولته، وشعوره بعزّة النفس تدفعه الى ان يشكر من قدّم اليه الماء، وبمقدار ما يكون عند الانسان رجولة سيكون ملتزما بأوامر الله.
ثم قال أمير المؤمنين، في سياق وصف المروءة: “وآخرها التنزّه عن الدنايا” فكل ما هو دنيء يكون ابعد شيء من المروءة ولذلك يجب التنزة عن الدنايا بجميع اشكالها.
وقال عليه السلام، في رواية أخرى: “خصلتان فيهما جماع المروءة اجتناب الرجل ما يشينه واكتسابه ما يزينه”، فالرجولة هي الابتعاد عن السفاسف وتجنبه الشَين، والاقتراب الى كل شيء يزيّنه، والكذب من الاشياء التي تَشين الانسان ولا تزينه، والدليل على ذلك الكذّاب يحلف أنه صادق! فلا يوجد كذّاب يعترف بكذبته، ولذا وصل الأمر ان يُخترع جهاز يركب على بعض اعضاء الانسان، وحين يسألونه عن شيء ويريد الكذب فإن ضربات قلبه تزداد، وتتوتر اعصابه، لان عقله وروحه، وكرامته الانسانية تمنعه، وحين يُلاحظ التغيّر في اعصابه معنى ذلك انه قد كذب.
وقال أمير المؤمنين، عليه السلام: “المروءة برئية عن الخنى والغدر” فمن يمتلك كرامة لا يغدر، ومسلم بن عقيل كان باستطاعته ان يقتل عبيدالله بن زياد غِيلةً، حينما جاء لزيارة هاني بن عروة في مرضه، ولكنّ مسلم لم يفعل ذلك، لان المؤمن لا يغدر.
وقال عليه السلام: “ان لا تفعل شيئا في السر تستحي منه في العلن”، المروءة حينما تظهر في إنسان، فإنه يحترم نفسه كما يحترم المجتمع، ويخجل من نفسه كما يخجل من المجتمع، وكل العظماء في يتميزون بهذه الخصلة (احترام النفس).
قال الإما الباقر، عليه السلام: “المروءة ان لا تطمع فتُذل ولا تسأل فتُقل ولا تبخل فتُشتم ولا تجهل فتُخصم”.
المروءة ان يكون الانسان صاحب عزّة وكرامة، وصحيح ان المروءة كلمة تُقال، ولكن ان يدرب الانسان نفسه على ان لا ينزل الى مستوى السفاسف والدنايا، ولا يبيع كرامته بثمن بخس، هذه كلها تحتاج الى ثلاثين سنة من العمل.
المروءة روح التديّن، هنالك في المجتمع أناس يمتلكون روح التديّن، اي ملتزمين بالواجبات، لكن تلك الواجبات خالية من روح التدين، تحمل فقط الهيكل الخارجي للصلاة، والصيام
ومن امثال الكرامة والمروءة من حياة أئمتنا الطاهرين، عليهم السلام، هو ما قام به الإمام الحسين، عليه السلام، حينما سقى أعداءه الماء، ومثلٌ آخر هو أبيه أميرالمؤمنين، عليه السلام، حينما دخل الى مسجد الكوفة وايقظ ابن ملجم، وقال له: قمْ لا تنم هكذا فإنه نوم الجاهلين، ثم قال: إن شئت ان أخبرك بما تحت ردائك لاخبرتك، وأمير المؤمنين في هذه الحالة لم يقتله لانه ــ اي اميرالمؤمنين ــ صاحب كرامة، فما دام ابن ملجم يواجهه بعدُ بالسيف والعنف.
المروءة روح التديّن
قال امير المؤمنين، عليه السلام: “ما حمل الرجل شيئا أثقل من المروءة”
المروءة روح التديّن، هنالك في المجتمع أناس يمتلكون روح التديّن، اي ملتزمين بالواجبات، لكن تلك الواجبات خالية من روح التدين، تحمل فقط الهيكل الخارجي للصلاة، والصيام، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أفضل الدِين المروءة ولا خير في دِين ليس له مروءة”.
وقال الامام الصادق، عليه السلام: “لا تنظروا الى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا الى صدق حديثه واداء امانته”.
وقال عليه السلام: إنما سمى الله اسماعيل صادق الوعد لانه وعد رجلا في مكان وانتظره في ذلك المكان سنة، فأتاه بعد سنة فقال له اسماعيل: ما زلت منتظرا لك، قال ــ تعالى ــ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}، هنالك إنسان لا يلتزم بوعده فلربما صار لديه امر طارئ، لكن هناك من يوعد ويصمم على ان لا يفي بوعده.
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إذا اراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه وجعل فيه اليقين والصدق”، فاليقين في مقابل الشك وعوامل الانحراف، وعوامل التثبيط في المجتمع، وكذلك الصدق مع الناس، فيكون قلبه واعيا وسليما، ولسانه صادقا، وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه سميعة، وعينه بصيرة هكذا يكون القلب مفتوحا.
وهنالك أناس {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فهؤلاء لا يرون الاشياء بحقائقها، ولا يستفيدون من العِبر، ولا تجد اخلاقهم مستقيمة، بعكس اولئك الذين قلوبهم مفتوحة يرون كل شيء من حولهم.
وفي رواية رائعة عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “ملاك المروءة صدق اللسان وبذل الإحسان”، وقال: “بالصدق تكمل المروءة”
صدق الرجل على قدر مروءته وإذا اردنا ان نعرف صدق أحدهم فما علينا إلا ان نجد المروءة فيه، فإن فُقدت فهو كاذب، وإن وجدتْ فهو صادق، وإذا كان يحترم نفسه ويجلها فهو صادق وإلا فلا داعي لتجربته، فهذان معياران نعرف بهما الصادق من الكاذب.
____
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).