قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “قدر الرجل على قدر همته وصدقه على قدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته وعفته على قدر غيرته”.
من أين تأتي قيمة الانسان؟
وما هو منبع الصدق في الذات البشرية؟
ومن اين تنبع في الانسان؟
وكيف يكون البعض عفيفي النفس وآخرون لا يتمتعون بالعفّة؟
في هذه الكلمات القصيرة يكشف أمير المؤمنين، عليه السلام، عن جذور الصفات التالية في النفس الإنسانية:
الأولى: قيمة الانسان.
الثانية: الصدق في الانسان.
الثالثة: الشجاعة في الانسان.
الرابعة: العفة في الانسان.
جذور هذه الصفات نفسية، وبسبب ــ الجذور ــ يكون الانسان شجاعا، صادقا، عفيفَ النفس، ومنتجا، وأمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الكلمات يبين الميزان الذي به نستطيع ان نعرف: هل هذا الانسان حضاري منتج ام لا؟
هل يصنع شيئا في هذه الارض ام سيكون مهملا؟
وهل هو صادق ام لا؟
وهل يتمتع بالعفة ام لا؟
وهل سيكون في المواقف الصعبة شجاعا ام لا؟
نستطيع ان نعرف كل تلك الصفات من جذورها.
حينما تنظر ــ مثلا ــ الى بستان فيه نخيل ستعرف انه ينتج تمرا، لان الشجرة موجودة والثمرة تعرف من الشجرة، فحين تريد ان تعرف ان شخصا يكون منتجا وله قيمة ام لا، تعرف ذلك من خلاله همته، فإذا كان منتجا لابد وان يتمتع بهمّة عالية، فبمقدار همته سيكون منجزا للاعمال الكبيرة.
وكذلك حين تريد ان تعرف ان فلانا صادق ام لا ــ طبعا ذلك لا يقتصر على صدقه في الكلام فقط بل صدقه في الصفات ايضا ــ تكتشف ذلك من خلال مروءته وهي تتمثل في كرامته فإذا كان كذلك فهو صادق، وإلا فلا، فلا يجب ان تجربه في موقف يكون فيه صادق ام كاذب، يكفي ان تعرف مروءته من خلال صدقه في المواقف.
وبمقدار ما يكون الانسان أنفا ويستشعر العزّة سيكون شجاعا “لان شجاعته على قدر أنفته”، وبمقدار ما يتمتع الرجل بمقدار من الغِيرة يكون عفيفا.
قيمة الانسان
“قدر الرجل على قدر همته” سواء كان ذلك مرتبط بالدنيا أم بالآخرة، فمثلا هنالك إنسان يريد ان يكون في الجنة جاراً للأنبياء، عليهم السلام، وبمقدار هذه الهمة ستكون طاعته وعبادته لله ــ تعالى ـ، وهناك إنسان آخر يقول: “يكفيني كوخ في الجنة! وهذا ستكون عبادته بمقدار كوخ.
الانسان إذا لم يقصد شيئا لن يصل اليه؛ فمن يتسلق في الجبل وهو لا يقصد الوصول الى القمة فلن يصل، ولذا جاء في الحديث الشريف: “المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه”
ذلك ما يتربط بالآخرة، وكذا الأمر حين يتعلق بالدنيا والأمور المادية ــ وهو واضح ــ فهنالك من يسعَ لان يكون مليونير، وهناك من يكتفي بالخبز والتمر وهذا سيكتفي بانجاز دينوي بسيط، فيكفي ان يكون حمّالا!
هنالك اناس لا يتمتعون بالهمة العالية ويعيشون على الأحلام، ينتظرون موتَ زعيم من الزعماء، وبعدها يتجمع الناس وهو بينهم، فيطلقون طيرا فجلس على رأسه، فينتخبه الناس زعيما! هكذا تقول الأساطير، فهذا لا يحمل همَّ الزعامة، ويتوقع عن طريق الصدفة او معجزة ان ينجز شيئا في هذه الحياة، وهنا لابد من الاشارة الى حقيقة مهمة وهي: ان الانسان إذا لم يقصد شيئا لن يصل اليه؛ فمن يتسلق في الجبل وهو لا يقصد الوصول الى القمة فلن يصل، ولذا جاء في الحديث الشريف: “المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه”.
في الجانب الايجابي وقيل: “ما رام امرؤ شيئا إلا وصله او ما دونه” فمن يقصد شيئا ويذهب وراءه ويصمد يصل اليه، وفي الجانب السلبي؛ إذا لم يقصد الانسان ولم ينوِ ولم يطلب، ولم يحمل همّ الشيء فلن يصل اليه.
وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ما هي الهمّة؟
الجواب: الهمة ان تحمل الهم، اي بمنعى ان تحمل الهموم.
سُئل أحدهم بعد ان عاد من إحدى الدول الأفريقية: كيف وجدتَ هذا الشعب؟
قال: شعب لا يحمل همّا، وهذا الشعب لا صناعة، ولا تجارة، ولا اكتفاء ذاتي، وفوق ذلك لا يحمل همّا، ولا يشغله الغم والحزن لواقعه، راضٍ بما هو فيه، ولذا فهناك امم لا تحمل هموما حضارية، فليس مهما ــ كما يتصورون ــ ان يكون شيئا في هذه الحياة، فهو متكفٍ بما هو فيه، فهؤلاء كما يشبههم القرآن الكريم: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، فالقطة لا يمكن في يوم من الايام ان تشيّد بناية عالية، وبقية الحيوانات لا تحمل هموما، ولا تملك شيئا وضعته لحياتها وتحاول الوصول اليه.
وبالعكس من ذلك تجد اناس يمتكلون هما وغما؛ قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم”، فالمسلم لابد ان يمتلك همومَ أمة، فقائد الشعب ــ مثلا ــ هو الذي يحمل هم الشعب بأكلمه، ويغتم إن لم يتطوّر وينمو شعبه.
هناك امم لا تحمل هموما حضارية، فليس مهما ــ كما يتصورون ــ ان يكون شيئا في هذه الحياة، فهو متكفٍ بما هو فيه، فهؤلاء كما يشبههم القرآن الكريم: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}
أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو الصورة المثالية في هذا الجانب، كان يهتم ليس فقط بالانسان، بل كان يتهم ايضا بالحيوانات، فيقول: “انكم مسؤولون عن بقاع الارض وبهائمها”.
وبمقدار ما يحمل الانسان الهم والغم واهداف الناس، بمقدار ما يتحول الى ضمير في أمته، لان الضمير يستيقظ حينما ينام الآخرون، والوجدان يعمل عند الانسان عندما تكون بقية الاعضاء نائمة، وكذلك الانسان الذي يحمل هموم الآخرين وغمومهم.
وكمثال ليس بالقديم، جمال الدين الأفغاني، ما الذي ميّزه على أقرانه الذي عاصروه؟ ما ميزّه انه كان يحمل هموم الشعوب الاسلامية؛ المصري، والتركي، والفارسي..، وبنفس المقدار كان له تأثير في هذه الارض، واصبح زعيما تعدّى زمانه، ولذا قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من كبرت همته كبر اهمتامه” فهناك من يحمل همّ سيارته، وآخر يحمل يهم لسيارته، وهناك آخر أوسع من ذلك يحمل همّ أمة حضارية.
وهناك انسان يهتم في نفسه بالجانب العملي، والروحي، والعقلي، والدنيوي، والأخروي، فهذا همته عالية، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً}، يريد ان يعيش في الدنيا سعيدا، وفي الآخرة كذلك، اي الجمع بينهما، يعمل لديناه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لآخرة كأنه يموت غدا.
ولذا جاء في الروايات الشريفة “ان فضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم”، او في حديث آخر: “ان عالِم أفضل من سبعين ألف عابد” ذلك ان همة العابد إنقاذ نفسه فقط، بعكس العالِم الذي يريد انقاذ الآخرين ولا يقتصر الامر على نفسه، وهذا كمثل اولئك الذي تحطمت سفينتهم فواحد اراد انقاذ نفسه، وآخر غريق يريد انقاذ نفسه و الاخرين، وشتان بين الشخصيتين، فبمقدار اهتمام الإنسان بالآخرين واستثمار طاقاته يكون انجازه في الحياة، ولذا حتى ترتفع همة الانسان لابد ان يرفع سقف اهتماماته ولا يرضَ بالانجازات القليلة والبسيطة.
______
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).