ولد الإمام علي بن الحسين، عليه السلام، في أواخر خلافة جده أمير المؤمنين سنة (۳۸) هجرية، فقد عاش فيها ثلاث سنوات وبهذا نجد أنه عاش فترة طفولته وشبابه في أيام معاوية، وهي أيام بدأت فيها عملية كتابة التاريخ وتحددت فيها المواقف وفيها أخذت التشجنات حدها الأعلى ومداها الأبعد ومن هذا نجد أن في هذه الفترة من الإمام بعدة تجارب منها :
الأولى: تعرض المدينة إلى ضغوط لا حدود لها .
الثانية: موقف المسلمين من عمه الإمام الحسن .
الثالثة: موقفهم من الحركة الإصلاحية للإمام الحسين وثورته التصحيحية في الطف.
برز الإمام السجاد، عليه السلام، على الصعيد العلمي والديني، إماماً في الدين ومناراً في العلم، ومرجعاً ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى حتى سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم.
فقال الزهري، وهو من معاصريه: “ما رأيت قرشياً أفضل منه، وقال سعيد بن المسيب وهو من معاصريه أيضا: ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين، وقال الإمام مالك: سمي زين العابدين لكثرة عبادته.
وقال سفيان بن عيينة ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه، وعده الشافعي أنه: “أفقه أهل المدينة”.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حكام عصره من بني أمية أنفسهم، رغم ما بينه وبينهم من عداوة وخصومة، فقال له عبد الملك بن مروان يوما: “لقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك، ووصفه عمر بن عبد العزيز بأنه: سراج الدنيا وجمال الإسلام . (تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 303 – 305).
عمل الامام السجاد على تركيز ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أمة جده فعلاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعيا لتحكيم دين الله، ولم يخرج “أشرا ولا بطرا”
ومع هذا اعتبر بعض المؤلفين أن شهادة الإمام الحسين، عليه السلام، أفقدت الفكر الشيعي المحور الأساس، وهو الزعيم السياسي الذي كان محور الحركة القيادية، وأن الإمام زين العابدين، عليه السلام، انصرف عن السياسة إلى الدين وأصبح زعيماً روحيا لا علاقة له بما يجري من أحداث على أرض ا الواقع، بل غاية ما قام به هو تخريج ثلة من العلماء والفقهاء الكبار الذين أصبحوا فيما بعد مراجع في الأحكام الفقهية والقضايا الإسلامية.
وحاول بعضهم أن يعطي بعض الترجيحات لتثبيت أن الإمام أخذ قراراً بالابتعاد عن السياسة، فيذكر ثورة المختار الثقفي ورفض الإمام لهذه الثورة، ما يؤكد عدم خروجه من مرحلة التعبد إلى مرحلة العمل السياسي، بل يمكن اعتبار فاجعة كربلاء كافية لانعزال الإمام عن الحياة السياسية وعدم وثوقه بالناس.
والحقيقة أن هذا التصوّر هو ما أراد أن يوحي به الإمام، عليه السلام، اللام للسلطة الأموية الحاكمة للحفاظ على التشيع ولنشر الإسلام الأصيل بشكل هادئ وليحصل التغيير من الأرض وبشكل تدريجي، وهو ما نفهمه عندما ندرس مراحل حياة الإمام .
المرحلة المنعطف
إن مرحلة الإمام السجاد يمكن أن تسجل منعطفاً مهماً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمة أهل البيت :
الأولى: مرحلة التصدي والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضد المنحرفين والمحرفين من الفاسقين، والمارقين، والناكثين، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين.
الثانية: مرحلة المعارضة السياسية الصامتة، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدِين، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمل عبء الرسالة المواجهة الانحراف والتحريف اللذَين أغرقت أواستغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
تأسيساً على ذلك، كان على الإمام زين العابدين، أن يجذّر في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدة ونظاماً ، شريعة ومنهاجاً، عدة أمور منها:
- تركيز ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أمة جده فعلاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعيا لتحكيم دين الله، ولم يخرج “أشرا ولا بطرا”، (بل لم يخرج على إمرة أمير المؤمنين يزيد) ولم ينو تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة المسلمين، وبالتالي فإنه قُتل بسيف أعداء الدين، وليس بسيف جده كما كان يروج الإعلام الرسمي آنذاك، وبعض المؤرخين المتخلفين اليوم.
- 2- بناء الجماعة الواعية، أو كما تُسمى القاعدة الجماهيرية الشعبية المؤهلة لحفظ الرسالة وحدودها، بعيدا عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي شملت مساحات عريضة من الجمهور المسلم، بحيث أضحت تلك الجماهيرالتي لا تفرق بين المفاهيم ومصاديقها، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها، أو بين الأصيل والطارىء، الأمر الذى يسبب الفتنة فعلا أو تشعلها، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور.
- تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزت لدى العامة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة، ومن ثم توضيح الخرق الفاضح الذي تم خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية. وبالأخرى فصل الدين عن السياسة، وإبقاء مقاليد الأمور بيد الصبيان والغلمان، يعبثون بمقدرات البلاد والعباد.
- العمل بدقة في مقطع زمني بالغ الحساسية، يحسب على الإمام، السجاد، عليه السلام، حركاته وسكناته، ويعد عليه أنفاسه وكلماته من جهة، وموازنة ذلك مع عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين، بعيدا عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق، من جهة أخرى وبهذا استطاع الإمام السجاد ع أن يقود الأمة ويكمل الثورة ويحقق بقية أهدافها، لكن بما ينسجم مع طبيعة المرحلة وتعقيداتها، حتى لو لم يتسلم سلطة أو حكما.
المقاومة بالكلمة
عمد الإمام زين العابدين، الى بناء الجماعة الواعية، أو كما تُسمى القاعدة الجماهيرية الشعبية المؤهلة لحفظ الرسالة وحدودها، بعيدا عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي شملت مساحات عريضة من الجمهور المسلم
وهناك ظاهرة في حياة الإمام، عليه السلام، ينبغي التوقف عندها والإشارة لها وهي ظاهرة قد تكررت في حياة آبائه وأبنائه، وهي أن الإمام في الوقت الذي لم يسل فيه سيفاً أو ينتض رمحاً، ويقاتل به نجد أنه قد شجع الكلمة المقاتلة ودفع بها إلى ساحة الجهاد وشجع الفكرة المقاتلة أيضاً، ومن هذا ما رأيناه واضحاً في موقف الفرزدق أمام الوليد في الكعبة المشرفة، فهو لم يكن يقول شعراً وإنما كان يطلق سهاماً فتاكة تفتك في خاصرة العدو، فالفرزدق وقف أمام الكعبة وراح ينتضي سهاماً يشجب بها أفعال أعداء آل محمد الله ويجابههم بها ويمدح آل بيت الرسول
ويعضد قول الإمام فهو يقول
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والـبـيـت يــعـرفـه والــحــل والـحـرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
في كفه خیزران ريحه عبق
من كف أروع فـي عــرنـيـنـه شـمـم يغضى حياء ويغضى من مهابته
فلا يكلم إلا حين يـبـتـسم
یکادیمسکه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
إلى آخر هذه القصيدة الرائعة التي أغضبت هشاماً منه فمنع جائزته.
واليوم نحن مطالبون بأن تكون كلمتنا قوية بوجه الظلم وتشخيص الانحراف ومساعدة المظلومين ونسير هذا الخط المقام.