كتب الكثير وتحدث عن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، و أردت أن أدلو بدلوي في أمر التعديل او التبديل، فوجدت العاطفة غالبة على العقل، والسياسة غالبة على القانون، ومصالح شخصية غالبة على مصالح عامة الشعب المعني بالدرجة الأولى بمحتويات هذا القانون.
يفترض ان يعكس المعترضون على تعديل القانون ضمير المجتمع، وتحديداً المرأة والطفل، كون التعديل يرتبط بمسألة الزواج والطلاق بالنسبة للمرأة، والحضانة بعد الطلاق بالنسبة للطفل، لكنّا لم نسمع سوى أصوات المعترضين والمناصرين لإلغاء التعديل، ولم يقتصر الأمر على بعض الحزبيين، والأكاديميين، والإعلاميين، وبعض منظمات المجتمع المدني، بل شمل فنانين ورياضيين! كانت لهم “فزعة” لتحقيق الغرض المطلوب بسحب مشروع التعديل من جلسات مجلس النواب العراقي.
لا يهمنا كثيراً الشدّ والجذب بين المطالبين بالتعديل و منطلقاتهم الدينية، وحتى الفطرية والإنسانية، وايضاً؛ دعاة الإبقاء على القانون الذي أقره عبد الكريم قاسم، وحذت حذوه الأنظمة السياسية المتعاقبة التي تشترك في منهج فصل الدِين عن الحياة الاجتماعية، ومبرراتهم في دفاعهم عن “حقوق المرأة”، بقدر ما يهمنا علاقة هذا القانون، بل والقوانين كلها بحياة الناس.
يبدو أن المعارضين لم يقرأوا بدقة بنود التعديل، أو يتغافلون عنها، فهي بالأساس حُزمة حقوق للمرأة والطفل ليس إلا، ما عدا مسألة الحضانة التي تمثل مسألة فطرية بالأساس
الذين وقفوا بوجه تعديل هذا القانون يتذرعون بدفاعهم عن المرأة والطفل، وهذا جيد، ولكن! نسأل هؤلاء، بدءاً من “نواب الشعب” مروراً بالاحزاب السياسية والمنظمات الثقافية ومن يدور في فلكهم من مشاهير التمثيل والرياضة والانترنت، هل قرأتم أحكام الشريعة الإسلامية التي ينطلق منها هذا التعديل، حتى يتضح ما اذا كان في صالح او في غير صالح المرأة والطفل؟
وهل أجروا مسحاً ميدانياً على شكل استفتاء او استبيان لاستجلاء آراء النسوة والأطفال عن رأي المرأة –مثلاً- في أن يتثبت قانونياً زواجها وفق أحكام مذهبها، حتى تكون الاحكام القضائية في حال الطلاق وقضايا أخرى وفق أحكام مذهبها ايضاً، وليس مذهباً آخر؟ وهل تم توجيه السؤال للطفل والطفلة من ضحايا الطلاق عن تجربتهم في أمر الحضانة، أيهما أصلح لهما؛ أن يكونا عند الأم أو الأب، لاسيما بعد زواج الأم؟
يبدو أن المعارضين لم يقرأوا بدقة بنود التعديل، أو يتغافلون عنها، فهي بالأساس حُزمة حقوق للمرأة والطفل ليس إلا، ما عدا مسألة الحضانة التي تمثل مسألة فطرية بالأساس، فان تحديد سنّ الزواج للفتاة بالتاسعة من العمر، او تثبيت الهوية المذهبية عند ابرام عقد الزواج في المحكمة، أمراً اختيارياً وليس الزامياً يترتب عليه عقوبات معينة، وهذا نصّ الفقرة الخاصة بعقد الزواج من مشروع قانون التعديل: “للعراقي او العراقية عند ابرام عقد الزواج ان يختاز المذهب الشيعي او السني الذي تطبقع عليه احكامه في جميع مسائل الأحوال الشخصية، ويجوز لمن لم يسبق لهم اخيتار تطبيق احكام مذهب معين، تقديم طلب الى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق الاحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يختارونه”.
ولمن يتحدث عن الدفاع عن الطفولة أمام حالات الزواج القسري لمن يسمونهم “القاصرات”، فان وجود القانون من عدمه، بل وجود النظام القضائي والسياسي برمته من عدمه، لا يؤثر في سلوك بعض الآباء وطريقة تفكيره في التعامل مع هذه القضية، وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، فالقانون لا يتمكن من إجبار أحد، منذ وجد، على فعل شيء، او ترك شيء آخر، إنما القضية ثقافية بامتياز.
والمعروف عن الناس بشكل عام قلّة القراءة فيهم، لاسيما في المرحلة الراهنة، إنما الصورة ثم الصوت هو سيد الموقف الثقافي، في حين تمثل القراءة والمطالعة الباب الأوسع للحصول على مختلف المعلومات والمعارف دون حدود كما تفعل الصورة والصوت، فنحن نرى ونسمع أشياء منتخبة بعناية من قبل أصحابها دون غيرها، ثم جاء المعارضون ممن يفترض ان يكونوا النخبة الواعية في المجتمع، ليكرسوا بأنفسهم حالة الجهل والتسطيح التي يعاني منها هذا المجتمع بالأساس، من خلال التفكير بالنيابة عنهم، ثم إصدار الاحكام بدوافع لا علاقة لهم بها، وهذا -لعمري- يُعد أخطر مطب ثقافي وأخلاقي يسقط فيه هؤلاء.
إن الناس في العراق، بل في جميع البلاد الإسلامية لا تنظر بارتياح الى المحاكم وأروقة القضاء، وطالما يسعون لتحاشي الوصول الى هذه المباني والمؤسسات لمعرفتهم أنها تمثل النظام السياسي الحاكم، أكثر مما تمثلهم وتتطابق مع هويتهم الدينية، بل وتتفهم أوضاعهم، لاسيما ما يتعلق بأمر الزواج، ثم القضايا المتعلقة بالمرأة والطفل.
فالقانون الذي وضعه الدين لا يتغير، بينما القانون الذي يخطّه بنو البشر يتغير بموت هذا وصعود ذاك، وهذه حقيقة مسلّمة أخرى عند الناس، إنما دور المؤسسة القضائية في الدول الحديثة؛ إدارة شؤون المجتمع وفق معتقداتهم السابقة لقوانين هذه المؤسسة، ولذا نرى الناس يلجأون الى “المؤمن”، او “السيد”، لمعرفتهم، ليس اليوم، ولا قبل مائة او مائتي عام، وإنما منذ أن أسس رسول الله، الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، أن الدين لا يخذل المرأة، ولا يظلم الطفل، بل هو الضامن الوحيد لحقوق الناس أجمعين.
إن الناس في العراق، بل في جميع البلاد الإسلامية لا تنظر بارتياح الى المحاكم وأروقة القضاء، وطالما يسعون لتحاشي الوصول الى هذه المباني والمؤسسات لمعرفتهم أنها تمثل النظام السياسي الحاكم
وعليه؛ فإن الضجة الحالية، والسابقة، والتي ستحدث بين فترة وأخرى في المستقبل، ليست قانونية بامتياز، إنما ضد سيادة الاحكام الدينية في المجتمع الذي ينتمي الى الدين قبل الوطن ونظام الحكم (الديمقراطي)، وسائر المسمّيات الأخرى، فمن جملة فقرات التعديل؛ إلغاء قانون “الزواج خارج المحكمة”، الذي يضع المتزوج أمام المساءلة القانونية اذا تجاهل المتزوج المحكمة واكتفى بعقد “المؤمن”! وعلى المحاكم تثبيت عقد الزواج رسمياً دون قيد أو شرط، فهو حق من حقوقه امام الدولة. والحديث عن هذا الموضوع يطول، ولا أجدني بحاجة الى مزيد من الشواهد والأدلة على حقيقة الدوافع وراء هذه الضجة المفتعلة، لان الناس، والقارئ الكريم، أدرى بأحوالهم وما يتعرضون له من أزمات ومشاكل بسبب التأرجح بين القوانين الوضعية البشرية بدوافع سياسية، والقوانين الإلهية التي واكبت تاريخ البشرية بالخير والسعادة، كما واكبتها معارضة من يريدون تحكيم أهوائهم ومصالحهم الشخصية منذ فجر التاريخ والى يوم القيامة.