ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (51) الشعور بالعُجب يمنع الإنسان من التألق

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “سيئة تسؤك خير من حسنة تعجبك”.

الشعور بالذنب، والشعور بالعُجب، شعوران متناقضان؛ الشاعر بالذنب يرى نفسه صغيرا، وحقيرا، ومطالبا، بينما الشعور بالعُجب يجعل الانسان راضيا عن نفسه، قانعا بما هو فيه، ومغترّا بما يعمل.

الشعور بالذنب قد يدفع الانسان الى التكفير(التكفير عن الذنب)، والتوبة الى الله، بينما الشعور بالعجب يدفع الى الزهو، والخيلاء ومن ثم التوقف عن العطاء، لذلك حينما يشعر الانسان بالذنب يعمل، وحين يشعر بالعجب يتوقف، فمن يشعر بذنبه يخطو الى الله خطوات لعلّ الله يغسل ذنبه، ومن يشعر بالعجب ينم على حرير الرضا.

الكلمة التي صدرنا المقال بها لأمير المؤمنين، عليه السلام، بالدرجة الأولى هي لذم العجب، فليست هنالك مفاضلة؛ فالعجب سيء، وارتكاب السيئة سيء ايضا، ولكن ارتكاب السيئة مع الشعور بعدم الرضا، خير من العمل بالطاعات مع الشعور بالعجب.

وقد يسأل سائل: ما هو العُجب؟

الشعور بالذنب قد يدفع الانسان الى التكفير(التكفير عن الذنب)، والتوبة الى الله، بينما الشعور بالعجب يدفع الى الزهو، والخيلاء ومن ثم التوقف عن العطاء

والجواب: هو الرضا عن النفس والابتهاج بالعمل واستعظام ما يفعله الانسان، والشعور بأنه قد خرج من حد التقصير وأدّى ما عليه.

والسيئة قد تكون سيئة الجوارج، ولكن العجب سيئة الروح، وبمقدار أن الروح أعمق واكثر سيطرة وتأثيرا بنفس المقدار تكون ذنوب ومعاصي الروح.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة هامة وهي: ان كل عمل مسبوق بنية، والنية هي التي تلوّن العمل، قد يقدّم إنسان لآخر خدمةً لكن بنيّة أن يُلحق الضرر به، هذا العمل رغم انه خدمة لكن ما دام ان النية هي المضرة فإن العمل يلون بلون المضرة، لان “نية المرء خير من عمل” و “نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله”.

وكما ان العمل مسبوق بنية كذلك هو معقب بنتيجة روحية، كل عمل قيمته بشيئين:

اولا: النية التي سبقت العمل.

ثانيا: التأثير الروحي تركه العمل.

فمثلا حين يدفع الانسان مالا لمحتاج في سبيل الله، فكون العمل في سبيل الله ففيه الثواب، لان سُبق بنية حسنة، وكون المعطي ارتفع على المال، فإن لهذا العمل أثر روحي وهو الكرم.

المال لا يصل الى الله لكن الذي يصل اليه نية الانسان، وتأثير العمل الروحي قال ــ تعالى ــ: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.

ولو افترضنا أن عملا ما سبقته نية حسنة، ولكن لحقته نتيجة سيئة وهو العجب، فحينئذ يكون العمل معصية لا طاعة، رغم ان النية كانت سليمة وحسنة، وهذا العمل لا يسجل في خانة الاعمال الصالحة، وإنما يُكتب في سجل المعاصي اي في تلك الاعمال التي لاتقرّب الإنسان الى الله، لانه بدل ان يؤمن بالله اكثر، آمن بنفسه.

وفي الواقع فإن الاسلام يقول حقيقة واضحة: في كل آيات القرآن الكريم، أن الانسان أمام الله بالقياس الى الله، حقير ومحتاج، وفقير، وجاهل، فالله هو العالِم المطلق، والقادر المطلق.

فكل طاعة وعمل تدفع الانسان الى الايمان اكثر، تجعل الفرد يشعر بحقارته، وضعفه، وجهله امام الله، ومن ثَم محاولة التعلّم، ومحاولة الارتفاع على سفاف الحياة فإن هذا يعد من الطاعة.

فالطاعات قد تكون هي المدخل لأن يعجب الانسان بنفسه، كأن يؤدي احدهم عملا عباديا، فيشعر بعده ان له حق على الله، فتصبح تلك العبادة محقا لعمله، “اعجاب المرء بنفسه حمق”.

الله عرف ان العجب الذي يدخل الى المؤمن يهلكه اكثر من الذنب نفسه، لذلك الله يبتلي المؤمن بالذنوب، وهو ــ تعالى ــ قادر على ان يمنع المؤمن من المعاصي

الشعور بالذنب يجعل الانسان متواضعا، والشعور بالعجب يجعله متكبرا، وأول ما عُصي الله به هو الكِبر حين قال ابليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.

وفي جانب آخر الشعور بالذنب يجعل الفرد يعظّم الناس، والشعور بالعجب يتكبر عليهم، قال الإمام الصادق، عليه السلام: “ان الله تعالى علم ان الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك لما ابتُلي مؤمن بذنب أبدا”.

الله عرف ان العجب الذي يدخل الى المؤمن يهلكه اكثر من الذنب نفسه، لذلك الله يبتلي المؤمن بالذنوب، وهو ــ تعالى ــ قادر على ان يمنع المؤمن من المعاصي، ولكن في بعض الاوقات يُترك العبد ونفسه حتى يعصي، لكي لا يصاب بالعجب الذي يعد سببا لحطّ العمل.

نعتقد كمسلمين أن هناك ذنوبا تحبط العمل، قال ــ تعالى ــ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} من تلك الاعمال العُجب، والمؤمن حين يعمل العمل إنما يبتغي القربة الى الله، ولكن يشوبه العجب يبتعد عن الله،  قال الإما الرضا، عليه السلام: “إن رجلا كان في بني اسرائيل عبد الله أربعين سنة فلم يُقبل منه فقال لنفسه: ما الذنب إلا منكِ (اي الذنب من الانسان نفسه) فأوحى الله اليه: ذمك نفسك أفضل من عبادة أربعين عاما”.

قال ــ تعالى ــ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}، فإذا كان العمل زاكيا فالله يعمله، فلماذا يتكلم الانسان انه متقي، وقال ــ تعالى ــ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}.

والمعجب بنفسه يأمن مكر الله، وقد يؤدي ذلك الى الظلم والطغيان، وابسط دليل عندما تسمع في القنوات التلفزيونية او اي وسيلة اخرى، تسمع الاوصاف الرنانة التي يوصف بها الطاغوت.

والذين لم يرضوا لأمير المؤمنين، عليه السلام، بالعصمة، في جرائدهم ومجلاتهم، ووسائل إعلامهم، تجدهم يرفعون الأمير، والرئيس وما اشبه الى درجة العصمة، وكأنه لا يخطئ أبدا ودائما هو مصيب!

 في إحدى المرات تعرّض عبدالكريم قاسم الى محاولة اغتيال ونجى منها، بعد ذلك خرج وقال: أنا أقوى من الموت! هذا الطغيان متأتي من الاعجاب بالنفس.

لكل معصية ولكل طغيان جذر في نفس الانسان وذلك الجذر هو الاعجاب بالنفس، والتكبّر على الناس، ومن ثم التكبر على الله.

قال الصادق عليه السلام: العجب كل العجب ممن يعجب بعمله، ولا يدري بما يختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله فقد ضل عن منهج الرشد، وادعى ما ليس له، والمدعي من غير حق كاذب، وإن خفي دعواه، وطال دهره، وإن أول ما يفعل بالمعجب نزع ما أعجب به، ليعلم أنه عاجز حقير، ويشهد على نفسه ليكون الحجة عليه أوكد، كما فعل بإبليس”، فالبعض يُعجب بصلاته، وآخر بصومه، وثالث يُعجب بذهابه الى بيت الله الحرام.

لكل معصية ولكل طغيان جذر في نفس الانسان وذلك الجذر هو الاعجاب بالنفس، والتكبّر على الناس، ومن ثم التكبر على الله

وللعُجب اسباب كثيرة منها؛ أنه قد يأتي من العبادة، والمفترض ان يأتي لا العجب من هذا الجانب لانه الله ــ تعالى ــ يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} ومن شروط التقوى الشعور بالحقارة، والضعف، والجهل أمام الله.

وقد يكون العجب متأتيا من القوة، فيظن الانسان انه أقوى الاقوياء، لكن في لحظة واحدة تتبخر كل تلك القوة المزعومة، فحين الموت لا تفيد الانسان أي قوة؛ لا طائرات، ولا دبابات ..، فهو قوي اليوم، ضعيف غدا، فكم من قوي اصبح ضعيفا.

والمال قد يكون هو الذي يدفع الانسان الى الاعجاب بنفسه، وبين لحظة وضحاها يفقد كل ما يملك، وآخر قد يعجب بجماله!

هذه وغيرها قد تكون اسبابا للعجب، وهي لا تكون عند العاقل سببا للثقة بالنفس، والركون الى ما يعمله، ومن الجيد ان يشعر الفرد انه في حالة تقصير لان ذلك يدفعه الى الانتاج أكثر، ذلك ان العجب عند كثيرين سبب توقف حضاري، ومن يتوقف هو الذي يخسر الحياة، والاعجاب سبب رئيسي للتوقف.

_______

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا