كان يفترض ان تأتي هذه الكلمات البسيطة قبل وقوع الخطأ الكارثي أمام مرقد الإمام الحسين، عليه السلام، في كربلاء المقدسة لموكب تشابيه بنيتهم تمثيل جيش عمر بن سعد، يقوم الممثلون بأداء حركات راقصة على الأرض وعلى الخيول على وقع الطبول.
ذكرنا في مقالات سابقة أن مواكب التشابيه من أكثر أعمال الشعائر الحسينية تأثيراً على النفوس وتحريكاً للمشاعر، وقدرةً على استدرار الدموع لاستذكار مصاب الامام الحسين، عليه السلام، فكلما نسمعه من الخطباء والرواديد، وما نراه من مظاهر الحزن، يمثل أفكاراً نظرية، وهي جيدة جداً ومطلوبة لصياغة ثقافة متميزة مستوحاة من قيم النهضة الحسينية، إنما المشاهد التمثيلية تمثل صوراً حيّة أمام الناس تعبّر عن جنود الباطل بالملابس ذات اللون الأحمر، وجنود الحق بالملابس ذات اللون الأخضر، و استذكار القاسم بن الحسن، وافتراضية زفافه الى المعركة والشهادة بدلاً من البيت والزواج، وأيضاً؛ مشهد الطفل الرضيع، وفي أيام الأربعين؛ لدينا تشابيه السبايا وهكذا سائر المشاهد التي يبذل فيها الممثلون قصارى ابداعهم الفنّي لتجسيد الواقعة أمام الناس في الشوارع.
كلُّ أصحاب المواكب الحسينية ورثوا من الآباء والأجداد الفعاليات الحسينية المشحونة بقيم الأخلاق والآداب والتضحية والالتزام بأحكام الدِين
و حسناً قال المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني ذات مرة في جمع من أهل المواكب الحسينية في قم المقدسة، بأن: “عندما يكون العمل كبيراً ومؤثراً في إصلاح الانسان الفرد والمجتمع، هنا يجب ان نحذر تحركات ابليس ومحاولاته تحريف هذا المسار، فقد أقسم بعزّة الله –تعالى- {وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ}”.
ومسألة الاستهداف هذه ليست مقتصرة على الشعائر الحسينية بكل اشكالها، فهي تشمل حياة الانسان طوال حياته، وتشمل العلماء والحكماء وأصحاب المال والسلطة على مر التاريخ، الامر الذي يجعل الانتباه والحذر أمراً ذاتياً لكل فرد من المشاركين في مراسيم التشابيه تحديداً الى جانب سائر الفعاليات الحسينية بأن يكونوا ضمن الإطار الشرعي الموصى به من قبل الأئمة المعصومين، ومنهم؛ الامام الحسين، عليهم السلام، فنحن نريد أن نذكّر الناس بمصاب الإمام، كما نريد تبيين قسوة وظلم جيش ابن سعد، والحالتين تحتاج لأداء متقن يحفظ جوهر القضية ولا ينزلق في المظاهر والشكليات.
والى جانب الحذر الذاتي، ثمة مسؤولية دينية ورسالية للعلماء والخطباء لتذكير أصحاب مواكب التشابيه بأنهم يمثلون المشهد على أرض مليئة بالأشلاء والدماء والسهام والرماح.
ولنسأل التالي: هل مصاب الإمام الحسين، وقضيته التي ضحى من اجلها يوم عاشوراء تحتاج الى مشهد الرقص على وقع الطبول بذريعة أنهم أصحاب عمرو بن سعد، وأنهم يعربون عن مشاعر الفرح لقتال الامام الحسين؟ وإن لم نقدم هذا المشهد هل سيحرم الناس من فقرة توعوية وثقافية من النهضة الحسينية؟
ليس هذا فقط، على العلماء والخطباء وسائر الشريحة المثقفة التي تتخذ من وسائل الاعلام مكبراً لصوتها، أن تنهي حالة الغياب عن بعض التصرفات والسلوكيات غير الحميدة أيام عاشوراء بغية التقويم والتذكير فأن: {الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، وليس في الأمر قدح او ذمّ بالمرة، بقدر ما مزيد من تفعيل الحرارة في قلوب المؤمنين إزاء مصاب الامام الحسين.
فالشباب والنساء على وجه التحديد إنما يحملهم الحماس والعاطفة الجيّاشة للحضور في مراسيم عاشوراء، وهذه العاطفة تحتاج لتقويم العقل والشرع، وإلا تحول المشهد الى ما يشبه الفلكلور الشعبي الموجود في العالم عندما يحتفل الناس في بعض المدن في مواكب كرنفالية بالأزياء القديمة، او بالطبيعة والزهور والألوان وغيرها من الأمور الموروثة من الآباء والاجداد.
مسألة الاستهداف هذه ليست مقتصرة على الشعائر الحسينية بكل اشكالها، فهي تشمل حياة الانسان طوال حياته، وتشمل العلماء والحكماء وأصحاب المال والسلطة على مر التاريخ
كلُّ أصحاب المواكب الحسينية ورثوا من الآباء والأجداد الفعاليات الحسينية المشحونة بقيم الأخلاق والآداب والتضحية والالتزام بأحكام الدين، تجسيداً لما وقع يوم عاشوراء، من صلاة وقرآن القرآن الكريم، ومن مواقف الوفاء، والصدق، والعفّة، التسامح، ونكران الذات.
وأجدني ملزماً باستذكار أحد أبطال هذه المواكب الذي وافاه الأجل قبل عامين، وهو الأخ الحاج محسن نجل المرحوم الحاج جواد المؤذن، الذي أبدع بإقامة موكب خيام الحسين، وذلك في المهجر، في ثمانينات القرن الماضي، من مهام هذا الموكب تقديم مشاهد تمثيلية لأصحاب عمر بن سعد وهم يغيرون على خيام الامام ويحرقونها بالنار ظهيرة العاشر من المحرم، وقبل دقائق من وصول ركضة طويريج، وهكذا من ابدعوا في صناعة “كُبّة القاسم”، او المشاعل المضيئة، او موكب زفاف القاسم، وموكب الطفل الرضيع الذي جاء باقتراح من سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – طاب ثراه، ومايزال أهالي كربلاء المقدسة يتذكرون الأداء الرائع والمؤثر للحاج “جواد الشمر” وتجسيده لشخصية الشمر في الشارع وسط بكاء وهياج الناس دون أن يخدش مشاعر الناس، ولا يخرج عن طريق الامام الحسين قيد شعرة.