“اسقوا القوم و رشفّوا الخيل ترشيفا”
كلمات سجلها التاريخ في موقف استثنائي لا يتكرر ابداً، توقف الزمن عندها لحظات.
سرية من حوالي ألف مقاتل يقودهم الحر الرياحي تستوقف قافلة الامام الحسين، عليه السلام، في طريقها الى الكوفة، منفذاً أوامر أمير الكوفة؛ عبيد الله بن زياد بأن يحبس الامام وقافلته في مكانهم ولا يدعهم يتحركون أينما وجدهم.
حصل حوار بين الامام والحُر، لا يهمنا منه سوى موقف الامام الحسين من الحر وجنوده وقد لاحظ إمارات العطش في وجوههم بعد قطعهم مسافة طويلة من الكوفة الى كربلاء، ومن المعروف ان القوافل عبر الصحراء تحمل معها كميات كبيرة من الماء الى جانب المواد الغذائية لتأمين الحاجة خلال أيام السفر، لاسيما وأن قافلة الامام كانت تضم أعداداً كبيرة من النساء والأطفال، من أسرته هو، وايضاً؛ من أسر الاصحاب، ربما يمكننا تقدير عددهم بمائتي امرأة وطفل إذا كان لكل واحد من الـ 73شهيد زوجة و ابنين، كحدّ أدنى.
هذا فضلاً عن الاصحاب (الرجال)، و أي شخص في موقف كهذا، يواجه احتمال المواجهة القاسية والمحتملة جداً، فانه أول ما يفكر به تأمين الماء والغذاء للفئة الأضعف في معسكره، ولكن الإمام الحسين؛ معلم الأخلاق كان يفكر بشكل آخر.
الموقف النبيل من الامام الحسين، عليه السلام، هو الذي حفّز الحر على مراجعة نفسه ليتجاوز ذاته هو ايضاً بعد أن تعلم الدرس جيداً، وتساءل عن سبب إصرار جيش عمر بن سعد على خوض الحرب ضد الامام الحسين
قدم الماء لكل أولئك الجنود القادمين من معسكر أعدائه، ومن الذين يريدون قتله وسبي نسائه، وقال قولته المشهورة: “اسقوا القوم و رشّفوا الخيل ترشيفا”، فهو لم يكتفِ بسقي الجنود، بل وشمل الخيل بكرمه وجوده وأخلاقه السامية، ويبدو أن في العرب آنذاك، كان يتم عرض الماء على الخيل المرهقة بطريقة الترشيف، او رشّ الماء على وجوهها وليس الشرب حتى لا يلحق بها ضرراً!
إنها الأخلاق النبوية التي تتجاوز الذات الى المصلحة العامة في موقف إنساني مثل العطش، او إزالة عارض من الطريق، او قضاء حاجة مؤمن، وكل ما نعيشه من تفاصيل الحياة اليوم.
ولعل هذا الموقف النبيل من الامام الحسين، عليه السلام، هو الذي حفّز الحر على مراجعة نفسه ليتجاوز ذاته هو ايضاً بعد أن تعلم الدرس جيداً، وتساءل عن سبب إصرار جيش عمر بن سعد على خوض الحرب ضد الامام الحسين، بل كان يجهل النية المبيتة لدى الأمويين بقتل الامام الحسين، عندما سئل بن سعد عما اذا كان جادّاً في “قتال الرجل”، فأجابه بالإيجاب، ثم أردف الحر عن رأيه فيما “عرضه من الخصال”، التي فهمها وآمن بها الحر فوراً، فأجابه بشكل غريب ينمّ عن نفس مريضة وقلب ميت: “لو كان الأمر بيدي لقبلت ولكن أميرك ابن زياد يأبى ذلك”!
ومن تلكم الخصال التي التقطها الحر فوراً، و عجز عنها ابن سعد، الكرم بتقديم الماء في تلك الظهيرة التاريخية الحاسمة لتكون درساً بليغاً للأجيال بأهمية الأخلاق في بناء العلاقات الاجتماعية، وتحديداً في بناء الروح السلمية والتسامحية بين الجيران في المنطقة السكنية او السوق، وفي كل مكان.
وأراني ملزماً بالإشادة بثقافة تقديم الماء في مدينة كربلاء المقدسة في كل بقعة منها، فضلاً عن المناطق المحيطة بالحرمين الشريفين، وهو يمثل اقتباساً ناجحاً من مشعل النهضة الحسينية، مما يجعلنا نعقد الأمل على سائر المناطق في العراق وفي كل مكان بالعالم توجد في القلوب حرارة الامام الحسين، عليه السلام.