عندما يقوم الواحد منا بعملٍ صالح يتقرّب به إلى الله ــ تعالى ــ، هل له أن يطالب الناس على ذلك أجراً؟ وإذا كان الناس هم الذين يبادرون لإعطائه أجراً، هل له أن يساومهم على ذلك، وكأنها صفقة تجارية أم لا؟
رجلُ دينٍ يؤمّ الجمّاعة في مسجدٍ ما، وآخر يرتقي المنبر ويعظ الناس ويرشدهم الى طريق الهدى ويحذّرهم دروب الضلال، وثالث ينشد الأشعار في مدائح أو مراثي الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، أو الأئمة الأطهار، ورابع يردّد هذه الأشعار والقصائد على مسامع الناس ويُطلق عليه لقب (الرادود)، وخامس يدير حلقات تعليم القرآن للناشئة في المساجد، قراءةً وتجويداً وترتيلاً وتفسيراً وتدبّراً، وسادس يذهب الى القرى والأرياف والمناطق النائية ليبلّغ للناس أصول الدين واحكام الشريعة ويهديهم الى الصراط المستقيم، وسابع يدرِّس علوم الدين لطلبة الحوزات او الجامعات، وثامن يمتهن قراءة النعي أو المديح لأهل بيت الرسالة في المناسبات الدينية، وتاسع يكتب المقالات والدراسات ترويجاً لمدرسة أهل البيت ومبادئ القران الكريم.
من المؤسف – وبصراحة – أن هناك العديد ممن يعمل في المجالات المذكورة يساوم الناس على عمله، فيرفض الأقل أجراً وإن كان أكثر نفعاً للناس، ويسارع للأكثر أجراً وإن كان الأقل نفعاً، أو حتى – أحياناً – عديم النفع
وهكذا.. كلُّ من يعمل عملاً مّا يرتبط بالدين (تبليغاً، ووعظأ، وارشاداً، وتعليماً، وهدايةً) هل له أن يحدِّد لعمله أجراً مادياً (مبلغاً من المال) يساوم عليه ويبحث عمَّن يدفع أكثر، أو المنطقة الأغنى والأوفر حظاً من المال طمعاً في الحصول على عوضٍ أكبر مما لو أدى مهمته في منطقة أقل حظاً؟
من المؤسف – وبصراحة – أن هناك العديد ممن يعمل في المجالات المذكورة يساوم الناس على عمله، فيرفض الأقل أجراً وإن كان أكثر نفعاً للناس، ويسارع للأكثر أجراً وإن كان الأقل نفعاً، أو حتى – أحياناً – عديم النفع.
وإذا أردنا أن نعرف مدى انسجام هذا النوع من التعامل مع قيمنا الدينية فعلينا أن نرجع الى كتاب الله العزيز.. فماذا يقول لنا؟
القرآن الكريم – الذي فيه بيان وتفصيل كل شيء – لم يهمل هذه النقطة الحسّاسة في العمل الصالح بمعناه الخاص، بل بيَّن الموقف من خلال الأمثلة والمصاديق الخارجية مِن الذين كانوا يعملون في مجالٍ رساليّ ولكنهم لم يطلبوا أجراً من الناس، بل كانوا يطلبون الأجر من الله ــ تعالى ــ.
في سورة الشعراء، خمسة من الانبياء قالوا هذه العبارة الموحدة لأقوامهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الأنبياء هم: نوح (الآية: 109) من سورة هود (الآية: 127) من سورة صالح (الآية: 145) من سورة لوط (الآية: 164) من سورة شعيب (الآية: 180).
أما النبي المصطفى محمد خاتم الأنبياء، فإن الله يأمره أن يقول للناس بأنه لا يطلب الأجر على تبليغ الرسالة:
– {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. (سورة الفرقان، الآية: 57).
– {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}. (سورة يوسف، الآية:104).
– {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. (سورة الشورى، الآية:23).
– {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّه}. (سورة سبأ، الآية:47).
وهناك العديد من الآيات الأخرى التي تتحدث عن قضية الأجر على تبليغ الرسالة، وبالمقابل يذكِّرنا القرآن الكريم، بما يجري في الجبهة الأخرى المقابلة لخط الأنبياء والرسل، ويذكر أحد المصاديق البارزة لذلك وهو: موقف سحرة فرعون، حيث نقرأ في الآية 113 من سورة الأعراف: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}.
ونقرأ في الآية 41 من سورة الشعراء: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}.
إذن، الأنبياء لم يطلبوا الأجر بإزاء تبليغ الرسالة، ومن يعمل في مجال مشابه عليه أن يقتدي بهم، حتى يتقبل الله منه ويعطيه الأجر العظيم.
ولم يهمل القرآن هذا الجانب من المسألة حيث ذكَّرنا بأنَّ الأجر في مثل هذه المهمات والمسؤوليات هو على الله ومن الله:
يقول عن المصلحين: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}. (سورة الأعراف، الآية:170).
وعن المجاهدين: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. (سورة النساء،الآية:95).
الأنبياء لم يطلبوا الأجر بإزاء تبليغ الرسالة، ومن يعمل في مجال مشابه عليه أن يقتدي بهم، حتى يتقبل الله منه ويعطيه الأجر العظيم
وعن العامل من أجل الله وفي سبيل الله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. (سورة النساء:114).
وعن من يفي بعهد الله: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.(سورة الفتح:10).
وفي الحقيقة فإنَّ طلب الأجر على العمل الصالح المرتبط بهداية الناس وارشادهم ووعظهم وما شاكل يضعف تأثير العمل في الناس بل قد يعدمه أساساً.
والأنسب للناشطين في مثل هذه المجالات – التي أشرنا اليها في بدء المقال – أن لا يجعلوا هذه المهام مهنةً لهم يسترزقون عبرها، بل على كل واحد أن يقسم اوقاته بين عمل يكتسب من خلاله الرزق الحلال، وبين العمل الصالح التبليغي الرسالي المرتبط بإرشاد الناس وتغييرهم الى الأفضل، اقتداءً بالرسال والانبياء والأئمة والأولياء الصالحين، وبذلك يكون قد ربح الدنيا والاخرة.