قال ــ تعالى ــ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
من اعظم فوائد الدِين والتديّن للإنسان في هذه الحياة ان الدِين يربي الانسان ويزكيه، ويوصله الى الرشد، ينمي طاقاته، وينظم حياته حتى يعيش في هذه الحياة سليما مطمئنا.
وإذا نظرنا التعاليم الدينية نجد ان الله ــ سبحانه وتعالى ــ الذي وضع الدِين، وهو أعرف بحاجات الانسان وتحدياته التي يواجهها في الحياة، سواء كانت تحديات داخلية ام خارجية، فجاءت تعاليم الديِن واوامره ونواهيه لمعالجة تلك التحديات، قال ــ تعالى ــ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
البشر حينما يضع لنفسه برنامجا للتكامل غالبا ما يركز على بُعدٍ من الابعاد، فقد يرى بذهنيته بُعدا هو البعد الأهم والاشمل
ولو نظرنا بصورة مجملة الى تعاليم الدِين نجد ان كثيرا منها تعالج الاشكالات في شخصية الانسان، ليتجاوز الفرد بذلك النواقص في شخصيته ليصل الى درجة أعلى، وبالتالي مسيره في هذه الحياة سيكون في إطار التكامل للوصول الى الدرجة التي تؤهله لرضوان الله ودخول جنته.
البشر حينما يضع لنفسه برنامجا للتكامل غالبا ما يركز على بُعدٍ من الابعاد، فقد يرى بذهنيته بُعدا هو البعد الاهم والاشمل، فعلى سبيل المثال، المتتبع لوسائل الإعلام الغربية الناطقة باللغة العربية يكون تركيزها على جانب الذكاء عند الانسان، فإذا كان الفرد نبهاً في المسائل الرياضية والفيزيائية وما اشبه، فإن هذا الانسان (الذكي) الذي حصل على الذكاء نتيجة اسباب جينية او بيئة او اي سبب آخر، فإنه يجب ان يُحترم، وان يُقدس، وحتى لو كان ضعيفا في الجوانب الاخلاقية والدينية!
الشمولية في الدِين
المقياس البشري يختلف تماما عن ما أراده الله ــ تعالى ــ من خلال الدِين، فالمطلوب من الانسان ان ينمّي الجوانب المختلفة في حياة الفرد.
فمثلا الجانب الفكري؛ عادة ما يصاب الانسان في فكره بما يسميه القرآن الكريم {الأغلال}، أي انه هنالك اغلال مجتمعية، او شبهات فكرية، و هذا ما يمهد الطريق لوساوس ابليس حتى يصيب بها الانسان، لكن التعاليم الدينية تعالج تلك الأغلال أيّاً كان نوعها، وهذه المعالجة تكون ناجعة وفعّالة، لان أتت من الله ـ تعالى ــ خالق الإنسان، إذ أنه يعرف ما ينفع البشر وما يضرهم.
ربما نجد مجتمعات بشرية تؤمن بمنظومة فكرية في ظاهرها انها جاءت لمصلحة الانسان، لكن حقيقتها غير ذلك، وإنما وضعها شياطين الجن والأنس لتصب في نهاية المطاف في حوض مصالحهم.
ولضرب المثال لايضاح الفكرة، مثلا اليوم يطرح مفهوم المواطنة او ما يسمى (الوطنية)، وإذا تساءلنا: مَن يدعو الانسان للتضحية من أجل الوطن؟! بغض النظر عمن يمثل الوطن ويحكمه؟
الإسلام يضع معيارا لمفهوم الوطنية بحيث يجعل الانسان يركّز على مفهوما واحدا ويبعده عن العناوين الأخرى المشوّشة للمفهوم الأساسي
الذي يدعو الى ذلك هو من يسيطر على الوطن نفسه، فيأتي لدعوة الآخرين ليضحوا بأنفسهم بما يراه هو انه مصلحة البلد، والذي ــ ربما ــ يكون غير مصلحة للوطن.
الاسلام يضع معيارا لمفهوم الوطنية بحيث يجعل الانسان يركّز على مفهوما واحدا ويبعده عن العناوين الأخرى المشوّشة للمفهوم الأساسي، فإذا أردت ــ في معيار الإسلام ــ ان تتخذ مؤقفا من شخص او أمر فلابد ان يكون المعيار هو “الحق” في قبال الباطل.
فإذا اراد الانسان ان يتخذ موقفا من شخص، سواء يحبه او يكره، فمعيار الحب والكره يجب ان يكون ضمن ميزان الحق، وبوجود هذا المعيار تتلاشى العناوين الثانوية، فمثلا لا ينظر الى عرقه، ولونه، وجنسيته.
أما إذا جاء احدهم ووضع عنوانا ثانويا لحدث ما، كأن يكون الحدث ــ مثلا ــ فيضان او زلزال في إيران، او دولة أخرى، فيقول لك: لماذا تفاعلت ايجابيا مع الحدث!
وهذا المنطق خلاف المعيار الديني، الذي جعل الحقَّ ميزانا للتعامل مع الآخرين، سواء في الجانب الايجابي او السلبي، فأن يكون الآخر صالحا، ومؤمنا ينبغي ان تكون علاقتي ايجابية معه، بغض النظر إن كان بلدي او من بلد آخر، وكذا الأمر في الجانب السلبي، كأن يكون هنالك شخص ظالم فلابد ان يكون موقفي منه سلبيا، وسواء كان من بلدي أم لا.
او كمثال آخر العاطفة عند الانسان، التي لو ادخلها في تعيين القضايا المصيرية، وتعيين الموقف، فإنها تشوش على الانسان، لذلك يعلّم الله الانسان أن لا تكون مواقفه مبنية على العواطف، لان الطرف المقابل ربما يهيّج العواطف فيندفع البعض الى تبني موقف معين تبعا لعاطفته، وهنا ايضا يجب ان لا ننجر لعواطفنا، ويحكم ان نحكّم المعيار (الحق) الذي وضعه الدِين في تبنّي أي موقف.
الدِين عبر تعاليمه يعلّم الإنسان كيف يفكر، وأي قرار يجب ان يتخذه، وإذا ما أردنا نعرف الحياة ونكتشف غورها وابعادها يجب ان نجعل التعاليم الدينية نصب أعيننا لتكون فنارا لنا حتى لا نقع في محذور.
__
(مقتبس من محاضرة لسماحة السيد محسن المدرّسي حفظه الله).