رأي

بيعة الغدير و ثورة العشرين

استوقفني التزامن بين ذكرى بيعة الغدير المصادف للخامس والعشرين من شهر حزيران الجاري مع ذكرى اندلاع ثورة العشرين في الثلاثين من الشهر نفسه، الذكرى الأولى وقعت في السنة العاشرة للهجرة، أي بحوالي القرن السابع للميلاد، فيما وقعت ثورة العشرين في سنة 1920للميلاد.

في الذكرى الأولى بايع اكثر من مائة ألف مسلم، علي بن أبي طالب، أميراً للمؤمنين وخليفة وحاكماً للأمة من بعد رسول الله، بأمر مباشر من الله –تعالى- وتنفيذ وتوجيه من شخص رسول الله، صلى الله عليه وآله، في الواقعة المعروفة بمكانها وزمانها وتفاصيلها، وأصبحت لدينا تحت عنوان: “عيد الغدير”. أما الثانية؛ فهي بيعة عشائر جنوب العراق للمرجع الديني الأعلى في زمانه؛ الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي على أن يصدر فتوى الجهاد لقتال الاستعمار البريطاني على خلفية السياسات التعسفية للبريطانيين بحق الشعب العراقي الخارج للتوّ من الهيمنة العثمانية، ليدخل تحت الهيمنة البريطانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

عندما نستذكر يوم الغدير، ونتخذه عيداً نبتهج فيما بيننا كمؤمنين وموالين لأمير المؤمنين، عليه السلام، يجدر بنا الالتفات الى الصفات والمؤهلات التي أرادها رسول الله لمن بايع أمير المؤمنين

أرى في هذا التزامن عدة رسائل تفيدنا لفهم التاريخ والماضي، ثم لوعي المرحلة وتفهّم الواقع، فقد أجمع العلماء والحكماء أن “من ليس من ماضٍ ليس له مستقبل”:

الرسالة الأولى: الى شيعة أمير المؤمنين، عليه السلام

ونرجو ان نكون منهم، بأن ما حصل في ذلك اليوم التاريخي المشهود، أخذ البيعة من المسلمين بالولاية والإمامة لأمير المؤمنين، على أنه الامتداد الحقيقي للرسالة السماوية: “من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه”، حتى المكان الصحراوي المُقفر، وساعة الظهيرة اللاهبة كانت ضمن حكمة إلهية بالغة تكشف عن اختبار عسير للحاضرين في ذلك المشهد وللأجيال القادمة الى يوم القيامة، وليست القضية سياسية بالمرة، ولو كان الأمر كذلك، لكان لزاماً على أمير المؤمنين المطالبة بتنفيذ الحكم الإلهي بإعلان نفسه الحاكم والخليفة من بعد رسول الله، شاء الناس أم أبوا، كون المسألة ليست اختيارية، فهي فريضة إلهية، مثل الصلاة والصيام والحج، إنما القضية دينية بامتياز، لتبليغ رسالة السماء كما ورد التأكيد الواضح في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، فالمسألة؛ تبليغ وتوعية وبناء ثقافي وفكري للأمة، وهو نفس ما قام به جميع الأنبياء والمرسلين على مر التاريخ.

فعندما نستذكر يوم الغدير، ونتخذه عيداً نبتهج فيما بيننا كمؤمنين وموالين لأمير المؤمنين، عليه السلام، يجدر بنا الالتفات الى الصفات والمؤهلات التي أرادها رسول الله لمن بايع أمير المؤمنين، و افتقدها جمهور المسلمين في تلك الأيام، وحصل ما حصل بعدها من كوارث على أهل بيت رسول الله، وعلى الأمة نفسها ايضاً.

الرسالة الثانية: للجيل الجديد

بأن المرجعية الدينية، متمثلة بالفقهاء الجامعي للشرائط والمتصدّين لدور المرجعية، هم طوق نجاة، ليس لكون شخص المرجع الديني واجب الطاعة، وإنما للدور الرسالي الممتد الى دور رسول الله، وأمير المؤمنين، ومن ثمّ بيعة الغدير، أي إن الولاء للقيم والمبادئ والاهداف السامية.

فعندما جاءت وفود العشائر العراقية الى كربلاء المقدسة لتأخذ فتوى الجهاد من المرجع الشيرازي، لم تأت الى عالم دين او فقيه، وإلا كان مثله المئات، بقدر ما قصدوه قائداً يحمل هموم الأمة، فكان منه الإقدام وتحمل المسؤولية، ومنهم؛ الالتزام والوفاء بالعهد بخوض المعارك ببسالة وعدم الخذلان والتراجع أمام الغطرسة البريطانية وتهديداتها بارتكاب كل الجرائم لصد الثورة، فكانت الملاحم البطولية في صفحات التاريخ السياسي والاجتماعي العراقي الحديث، بغض النظر عن النتائج، فكل الثورات ومشاريع التغيير والإصلاح في العالم، تبدأ ناصعة بأهدافها، ونظيفة بوسائلها، ولكن ما يطرأ عليها من مواقف الخذلان او عوامل خارجية، يبعدها عن مسارها الحقيقي، وهذا ما لم يسلم منه حتى رسول الله، بتضحياته الجسيمة، و رسالته العظيمة.

الرسالة الثالثة: للشريحة المثقفة

عندما جاءت وفود العشائر العراقية الى كربلاء المقدسة لتأخذ فتوى الجهاد من المرجع الشيرازي، لم تأت الى عالم دين او فقيه، وإلا كان مثله المئات، بقدر ما قصدوه قائداً يحمل هموم الأمة

الشريحة التي تقول؛ إنها تحمل هموم الناس، وتعبر عن مشاعرهم وتطلعاتهم من خلال المقالة، والخطابة، والأدب، عليها أن تتميز عن سائر افراد المجتمع بطول أناتها في تقييم الأمور قبل إصدار الاحكام، وأن تكون أكثر الناس إنصافاً في تقييم التاريخ، وأكثر واقعية وعقلانية من الآخرين لصياغة البدائل للحاضر، وصنع المستقبل الواعد، لا أن نكرر ما قالته بنو إسرائيل قبل حوالي أكثر من ألفي عام لنبيهم: “اذهب وانت و ربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”، ننتظر ظهور القائد والمصلح الذي تكون بيده عصا موسى، يصلح المجتمع ويجعله نظيراً للملائكة، ثم يقضي على الفاسدين والعملاء والطغاة الظالمين و….! واذا ما حصل خطأ في المسيرة فانه المسؤول الأول والأخير، ولسان حال البعض: “ومن قال له تحمّل المسؤولية”؟!

إن من أسباب رفض أمير المؤمنين لجموع المطالبين بتوليه الحكم بعد مقتل عثمان؛ معرفته اليقينية بأن هؤلاء المتجمهرين ليسوا “غديريين”، وإنما سياسيين، يريدون حاكماً يحقق لهم رغباتهم، وقد بين القرآن الكريم هذه المعضلة النفسية التي يفشل الكثير في حلها: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}، وقد صدقوا ظنّه، عليه السلام، فهم أنفسهم الذين تخاذلوا، ونكثوا، وخانوا، وتركوا الإمام أمير المؤمنين وحده في الميدان على أمل أن يأتي شخصٌ آخر يحقق لهم ما نهاهم عنه إمامهم، وهو؛ “طلب النصر بالجور”، و”الغاية تبرر الوسيلة”، فحصل ما حصل في عهد معاوية، ثم من بعده ابنه يزيد، ثم استمرت المسيرة حتى يومنا هذا، وتستمر الى يوم القيامة، إلا أن تتغير النظرة إزاء الدين وقيمه ومبادئه كما أراد الله -تعالى- لنا لنعيش السعادة الحقيقية.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا