ثقافة رسالية

ماذا استفدنا من التعكّز على المادية؟

قال ــ تعالى ــ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

في القرآن الكريم آفاقا متعددة، ربما قرأ السابقون من المسلمين الآيات القرآنية ففهموا منها شيئا، وكان فهما صحيحا، لكن حين تطورت الحياة وفُتح أمام البشر آفاقا جديدة ومع الآفاق آفات وتحديات جديدة، قرأ من جاء بعد ذلك الآيات القرآنية، قرأ التحديات المستجدة.

وهذا لا يعني ان الأوائل كانوا اقلَّ علما وفهما، بل لان تطور الحياة يفرض على الانسان النظر الى بعض المفاهيم التي طرحها الله بمنظار جديد، وينظر الى المعالجات التي تحدث عنها الله عنها بالتحديات التي لم تكن في زمن نزول القرآن الكريم.

ومن أمثلة ذلك؛ حين قرأ الأوائل ــ مثلا ــ بداية سورة الطور المباركة، فوجدوا أن الله يقسم في الآيات بمجموعة من الحقائق الواضحة، لكن ما وجه الارتباط بين الآيات ببعضها البعض، فلم يدركوا ذلك.

لكن حين تطوّر البشر فكريا وصار يبحث عن موضوع كبير مثل الحضارة والمدنيات، وأسباب نموها وسقوطها، وَجَدَ المسلمون في نفس الآيات حديثا عن مقومات الحضارة وانشاء المدينات، وهذا ما تحدث به سماحة المرجع المدرسي “دام ظله” في تفسيره من هدى القرآن، في تفسير سورة الطور.

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم هو الحديث عن الكرامة الالهية والتي جاء آية في سورة الاسراء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

الكرامة من الناحية اللغوية تعني العلو، سواء كان علو المرتبة، او علو القيمة، وغالبا ما تتناسب النوعان المذكوران للكرامة، فالشيء الباهض ثمنا العالي مرتبة يسمى بالشيء الكريم.

والكرامة الإلهية تعني ان الله خلق الانسان أكرمَ من سائر المخلوقات، أعلى مرتبة وقيمة، ومن أوجه ذلك ما ذكره القرآن الكريم {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

وموضوع الكرامة مرتبط بالعفة، لان العفة تنشأ عند الانسان حين يستشعر كرامته وقيمته، هذا المفهوم واضحا عند من قرأ الآيات الكريمة.

لكن اليوم من الممكن الحديث عن أُفق جديد في موضوع الكرامة، والقرآن الكريم عالج هذا التحدي المرتبط بهذا الزمن.

من التحديات ان الحالة المادية طاغية على الأرض، و هذه الحالة رسمت سلوكياتها من خلال رؤية فكرية وفلسفية ونموذج تحليلي كامل، ومن جملة ذلك ان الحضارة المادية أنكرت وجود شيء اسمه “وراء المادة”، فكل ما هو وجود في الكون ونتعرف به ونجده ونحسّه هو المادة، وما عدا ذلك، سواء كان الشيء الأكبر والاهم وهو وجود الله، الذي هو غيب لا يدرك بالحواس، او الاعتقاد بوجود الملائكة والجن فهذه وغيرها قضية غيبية لا وجود لها حسب النظرة المادية.

ومن تجليات النظرة المادية في الانسان، أنه لا وجود له غير جسمه المادي المخلوق من لحم وعظم، وما عدا ذلك ليس للإنسان تميز سوى انه اكثر تطورا من المخلوقات الأخرى، وما يتميّز به الانسان  ــ حسب النظرة المادية ــ من الفكِر والمشاعر، والاحاسيس من الحب والبغض، إنما هي مجرد ابداعات بشرية يمكن فهمها من خلال معادلات رياضية، وقيمة الانسان بما له فائدة مادية، وإذا توقف عن العمل فإن تلك القيمة تذهب ادراج الرياح.

الحالة المادية طاغية على الأرض، و هذه الحالة رسمت سلوكياتها من خلال رؤية فكرية وفلسفية ونموذج تحليلي كامل، ومن جملة ذلك ان الحضارة المادية أنكرت وجود شيء اسمه “وراء المادة”

وفي مجتمعات معينة حينما يصل الانسان الى نهاية حياته الإنتاجية ويصبح مستهلِكا يتخلصون منه، ويرمونه في دار المسنين والعجزة.

والنموذج المادي الذي يروّج له الغرب، لا يوجد انسان يستطيع تطبيقه بالصورة الكاملة، لان الانسان لا يمكنه ان يسير بجانب مادي وحيد في حياته، ذلك انه له جانب آخر وهو الجانب الروحي والأخلاقي، فلا يمكن ان يصل الانسان الى مرحلة يكون فيها كائنا ماديا بحتا.

بينما الإسلام له نظرة مختلفة تماما، فهو ينظر الى ان الانسان كائن له قيمة وليس مادة وحسب، وإنما هنالك شيء وراء المادة، وهو الذي أكسب الانسان قيمةً وتميّزا، وتميز الانسان ليس في الرتبة والمادة، بل في جوهره وهو ما يرتبط بشيء إلهي سماوي.

وهذا هو موضع التكريم الأساسي للبشر، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ليس فقط في الجسم، بل اعطى الانسان عقلا، إذ جاء في الروايات الشريفة عن النبي الأكرم، وأهل بيته، “ان افضل من خلق الله نور العقل”، ومهما يكن فقيمة الانسان لا تصبح كقيمة المادة.

الرؤية الالهية التي جاء بها الاسلام كرؤية كونية للحياة ونموذج كامل للانسان في الكون، والتي انعكس في الاخلاقيات والامور الشرعية.

والرؤية الإسلامية تختلف كليا عن الرؤية المادية للإنسان في غياتها وأهدافها، ومن الخطأ تمام ان يتم محاكمة الرؤية الإلهية (الدِين) من خلال النموذج المادي البشري، وكمثال واقعي، قبل فترة طرح احد المثقفين إشكالية على كتاب” اقتصادنا”، وان هذا الكتاب لا يؤدي الى النماذج الاقتصادية المعروفة وبالنتيجة فالإسلام لا اقتصاد له.

لكن هنالك من ردّ عليه ما معناه: “ان نقد الكتاب هو مدح له من حيث أراد الناقد ذمّه، لان الأهداف الاقتصادية التي يريد الإسلام الوصول اليها ليست بالضرورة نفس الأهداف التي وصلت اليها النظم الاقتصادية في زماننا هذا، فليس غاية الإسلام ــ بالضرورة ــ الوصول الى السوق الحر”.

وبشكل عام سواء كان في الاقتصاد ام غيره، فإن المتبنيات التي يريد الاسلام الوصول اليها، ليست بالضرورة ذاتها الغايات التي يسعى اليها النظام المادي الذي يختصر الانسان في الوجود المادي، وتختزل أفعال وتصرفات الانسان في الدنيا فقط.

عمل المرأة

من المناقشات التي تستهلك الوقت الكثير هو مسألة “عمل المرأة”، فماذا تقولون في عمل المرأة؟

وهنا لابد من طرح سؤال: ما هو عمل المرأة؟

وسؤال آخر: ماذا نقصد بالمرأة؟

لابد ان نقرَّ اولا ان هناك ذكر وانثى حين الولادة، اي هنالك اختلاف في التكوين، وهذا الاختلاف ينشأ عنه اختلاف في الوظائف والادوار والطاقات والامكانيات، وإذا أقررنا بذلك فلابد ان يكون للرجل أدوار خاصة به، وكذلك المرأة لها أدوارها الخاصة بها.

أما عمل المرأة فهنالك احتمالات لهذا المفهوم:

الاول: ان تقوم المرأة باعمالها الطبيعية من اكل وشرب ونوم وما اشبه.

الثاني: المهنة التي تؤدي الى فائدة لنفس العامل وللمجتمع، وإذا كان هذا هو المقصود من “عمل المرأة” فعلى كل امرأة ان تكون لها حرفة ومهنة، لان كل إنسان يجب ان يكون عنصرا فاعلا في المجتمع، وأن لا يكون كلّا وعالا على غيره.

الرؤية الإسلامية تختلف كليا عن الرؤية المادية للإنسان في غياتها وأهدافها، ومن الخطأ تمام ان يتم محاكمة الرؤية الإلهية (الدِين) من خلال النموذج المادي البشري

وحينما نقول: انه لابد للمرأة ان تعمل، فهل امهاتنا وبناتنا وخواتنا يعملن، فتسعون بالمئة من نساء العراق هنَّ عاملات، بل ان ما تصرف المرأة من الجهد والعمل على بيتها وعلى زوجها في كثير من الأحيان أكثر بكثير مما يصرفه الرجل خارج المنزل.

النموذج المادي الذي ينظر لعمل وإنتاج المرأة ليس عملها في بيتها، بل انتاجها يرتبط بما تجنيه من أموال لقاء عملها خارج بيتها، وتعريف عمل المرأة اليوم متحيز ضمن النموذج المادي، وإلا فإن عمل المرأة كالرجل لا يتوقف على الإنتاج المادي وحسب.

ولهذا يجب ان نلاحظ طريقة التفكير وطرح المفاهيم ونحاكمهما، فلابد من مناقشة جذر المسألة، وإلا فلا مشكلة في عمل المرأة كامرأة في الرؤية الدينية، لكن ما يجب ان نعلمه ان الدِين حدد مساحةً لعمل المرأة، فليس بالضرورة ان يكون عمل المرأة في بيتها فقط، بل لابد ان تشارك في الأنشطة والاعمال الرسالية في حدود امكانيتها ومساحتها.

___

(مقتبس من محاضرة لسماحة السيد محسن المدرّسي)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا