مناسبات

الإِمَامُ الحُسَين، عليه السلام، وَعَرَفَاتُ المَعرِفَة

مقدمة معرفية

بدأت رحلة النور، وانطلق الحجيج إلى مسعاهم، ولكن ركب الإمام الحسين، عليه السلام، انطلق في رحلة الخلود، ولكن هل عرفنا -أو عرفت الأمة الإسلامية- لماذا عاكس الإمام اتجاه الأمة في ذهابها إلى عرفات؟ وهل عرفت الأمة عرفات ومعناه ومبناه إلا من الإمام الحسين، عليه السلام،؟

المعرفة -في الحقيقة- هي مربط القلوب بعلام الغيوب، ولكن كيف نعرف غيب الغيوب، وهذا ما اختصره لنا المولى أبو عبد الله الحسين، عليه السلام، في حديثه، فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ الصادق، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: “خَرَجَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا خَلَقَ اَلْعِبَادَ إِلاَّ لِيَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ، فَإِذَا عَبَدُوهُ اِسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَمَا مَعْرِفَةُ اَللَّهِ؟ قَالَ: “مَعْرِفَةُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إِمَامَهُمُ اَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ“. (علل الشرایع للصدوق: ج۱ ص۹)

فمعرفة الله تعالى لا تكون إلا بمعرفة الإمام الذي تجب طاعته، وأخذ الأحكام والشرائع منه، لأنه الباب الذي يؤتى الله –تعالى- من خلاله، والإمام الحسين، عليه السلام، في عصره هو باب معرفة الله، وأنعم به وأكرم، من باب فهو سيد شباب أهل الجنة.

الإمام الحسين، عليه السلام، وعرفات

ترك الإمام الحسين، عليه السلام، الحج المستحب ليقيم الحياة الواجبة على الإنسانية، فخرج بنفسه وهو مدار الحج وقطب عرفات والمعرفة ليقول للأجيال: أن الحياة هي ساحة المسجد لعباد الله المخلَصين، ومَنْ أراد أن يعبد الله حق عبادته فلا يحبس نفسه في مسجده، بل ليجعل المجتمع والأمة والحياة كلها مسجداً له

والعجيب أن الإمام الحسين، عليه السلام، لم يذهب مع الحجيج إلى عرفات في سنة 60 للهجرة، فهل عرَّفوا وعرفوا الله، ومعرِّفهم ترك الموقف بلا معرِّف لهم، رغم أنه ترك لهم في حجاته السَّابقة أعظم دعاء يدعون به في موقفهم المهول، والرهيب فيما يعرف بدعاء يوم عرفة الذي يشكل دائرة معارف كبرى مركزة جداً لو قيَّض الله لها لُجنة علمية متخصصة بشتى أنواع العلوم، وقاموا بدراسته كل كلمة، وكل فقرة، لأن الإمام الحسين، عليه السلام، أراد و أحبّ أن يعطي الأجيال والإنسانية زاداً معرفياً ليعرِّفهم به ربهم ومعبودهم إذا تسلَّط عليهم مَنْ لا يرحمهم؟

وأنا شخصياً في كل عام وعندما أقرأ هذا الدعاء الشريف في يوم عرفة أتوقف عنده طويلاً وأقول لنفسي: متى أعرف المُراد الإمام من هذا الدعاء؟ بل متى أفهمه كما يجب أن يُفهم؟ ولكن أقرأه وأتوقف عند فقراته وكلماته وأقول: السلام عليك يا إمام المعرفة، ويا واسطة المعرفة، ويا مَنْ عرَّفتنا الطريق إلى معرفة الله في يوم عرفة.

فكم هو جميل عندما يقول: “اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ وَأَسْعِدْنِي بِتَقْوَاكَ وَلاَ تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَخِرْ لِي فِي قَضَائِكَ وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ حَتَّى لاَ أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ وَلاَ تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ“.

فهل هذا كلام معرفة أم عرفان؟ وهل المقام بلسان المقال أم أنه بلسان الحال الذي نعيشه بأرواحنا وقلوبنا التي ترى الرب فتخشاه؟

وما أكمل هذا الكلام المعرفي الذي اختصر فيه المولى كل المعارف العليا حين يقول: “يَا إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَرَبَّ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، وَرَبَّ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ وَآلِهِ اَلْمُنْتَجَبِينَ وَمُنْزِلَ اَلتَّوْرَاةِ وَاَلْإِنْجِيلِ وَاَلزَّبُورِ وَاَلْقُرْآنِ اَلْعَظِيمِ [اَلْحَكِيمِ] وَمُنْزِلَ كهيعص، وَطه، وَيس وَاَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ، أَنْتَ كَهْفِي حِينَ تُعْيِينِي اَلْمَذَاهِبُ فِي سَعَتِهَا، وَتَضِيقُ عَلَيَّ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ بِرُحْبِهَا“!

نعم؛ إنه خلاصة الإيمان بالغيب والشهود، وبالنبوة والرسالة والدِّين، وبكل ما نزل من السماء ليعرِّف هذا الإنسان على مبدئه ومعاده.

الإمام الحسين، عليه السلام، ومعرفة الحياة

والإمام الحسين، عليه السلام، في يوم التروية؛ الثامن من ذي الحجة، وهو اليوم الذي استشهد فيه سفيره العظيم مسلم بن عقيل، عليه السلام، أول شهداء طريق النور حلَّ إحرامه وبدل أن يتَّجه إلى صعيد عرفات، اتجه إلى جهة أخرى وصعيد آخر لأنه قد علَّم الأمة ماذا تفعل في عرفات المعرفة، و أراد أن يعرِّفها كيف هي الحياة الحرة الكريمة، لأن الحياة الإنسانية المهانة الذليلة ليست حياة وإنما هي موت بين الأحياء.

فالإمام الحسين، عليه السلام، ترك عرفات ومضى إلى ساحة المعرفة الحقيقية وهي الجهاد في سبيل الله وطريق الكرامة الإنسانية، وأراد أن يقول للأمة كما قال لبني هاشم: “فَإِنَّهُ مَنْ لَحِقَ بِي مِنْكُمُ اُسْتُشْهِدَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ لَمْ يُدْرِكِ اَلْفَتْحَ“، فالفتح الحسيني قطعاً ويقيناً بالشهادة التي أرادها الله تعالى له، وذلك لأن والده حكيم الإنسانية وإمامها أمير المؤمنين، عليه السلام، يقول: “فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَدِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَشَمِلَهُ اَلْبَلاَءُ وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَاَلْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ وَأُدِيلَ اَلْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلْجِهَادِ وَسِيمَ اَلْخَسْفَ وَمُنِعَ اَلنَّصَفَ“. (نهج البلاغة: ج۱ ص6۹)

فترك الإمام الحسين، عليه السلام، الحج المستحب ليقيم الحياة الواجبة على الإنسانية، فخرج بنفسه وهو مدار الحج وقطب عرفات والمعرفة ليقول للأجيال: أن الحياة هي ساحة المسجد لعباد الله المخلَصين، ومَنْ أراد أن يعبد الله حق عبادته فلا يحبس نفسه في مسجده، بل ليجعل المجتمع والأمة والحياة كلها مسجداً له، وليسعَ لإنقاذ عباد الله من شياطين الإنس والجن، وليستخلص فقراء وأيتام آل محمد من الطغاة في كل أرض وزمان، وفي كل عصر ومصر، وهذا يجب أن يكون وفق منهج وضعته السماء، ولكن أضاعه الأشقياء من صبيان النار الأموية حيث أراد كبيرهم الذي علمهم الكفر أن يدفن الدِّين دفناً، “لا والله إلا دفناً دفناً”، ويمنع ذكر رسول الله في الآذان، كما سبَّ وشتم أولياء الله على منابر الإسلام التي بنوها بجهدهم وجهادهم لرفع راية الحق فأنزلوها ورفعوا راية الباطل فوق رؤوسهم.

رسالة الإمام الحسين، عليه السلام، المعرفية لأهل الموقف في عرفات هي رسالة الحياة وفقهها، ومعرفة الواجب من الأوجب منها، والسعي في سبيل تحقيق مراد الرَّب سبحانه في حياتهم، وملخَّص مراد الرَّب، هي معرفة الإمام القائد والحاكم لدولة الحق والعدل

والحياة لا تقبل بالباطل ولا بالخانع الخاضع والذليل الخاشع من الخوف والجبن أمام الطغاة، بل تبحث عن ذلك الذي يثيرها ويعيد لها تألقها ويزرع دروبها بأزاهير العشق للحق، و ورود الإنسانية الفاضلة، ويسقيها ليس بالماء الفرات، بل يرويها بدماء المعرفة والشهادة القاني، وأثارها بكلماته التي انطلقت لتكون للعالمين شعارات كقوله: “أَلاَ وَإِنَّ اَلدَّعِيَّ اِبْنَ اَلدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اِثْنَتَيْنِ اَلسِّلَّةِ وَاَلذِّلَّةِ وَهَيْهَاتَ مِنَّا اَلذِّلَّةُ يَأْبَى اَللَّهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَحُجُورٌ طَابَتْ وَحُجُورٌ طَهُرَتْ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ مِنْ أَنْ نُؤْثِرَ طَاعَةَ اَللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ اَلْكِرَامِ“، وهذا ليس كلام ليوم بل شعار لكل يوم، ومنهج لكل قوم يريدون العيش الكريم.

الإمام الحسين، عليه السلام، رسالة

والحقيقة أن الله -سبحانه وتعالى- أنعم على هذه الأمة بل على الإنسانية بهذا الإنسان الراقي الذي هو مثال الإنسانية حقاً، وذلك لأن الله قال في كتابه الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24)، فالاستجابة لدعوة الله ودعوة رسوله الكريم نفذها الإمام الحسين، عليه السلام، بكل حذافيرها، وكل مَنْ أراد أن يستجيب عليه أن يقتدي بالإمام الحسين في نهضته في مواجهة الطغيان والظلم الذي حرمه الله –تعالى- في هذه الحياة، ولذا ليس عجيباً أو غريباً أنه مَنْ لم يستطع أن يعرِّف في عرفات فعليه أن يعرِّف تحت قبته الشريفة، لأن الله ينظر لزواره بعين الرحمة قبل أن ينظر لأهل الموقف في عرفات، فعرفات عند الإمام الحسين يعني أن المعرِّف بالله هو الإمام وليس غيره.

ولذا الإمام الحسين، عليه السلام، يمثِّل رسالة جده الرسول الأعظم المختصرة في كتاب الله الحكيم، والمنبسطة بالتأويل على كل ساحات الحياة الإنسانية الحرة الكريمة، فهو التجسيد الحي والتشخيص الذي يمشي على قدمين ولا غرو في ذلك أليس هو القرآن الناطق؟

فرسالة الإمام الحسين، عليه السلام، المعرفية لأهل الموقف في عرفات هي رسالة الحياة وفقهها ومعرفة الواجب من الأوجب منها، والسعي في سبيل تحقيق مراد الرَّب سبحانه في حياتهم، وملخَّص مراد الرَّب فيها هي معرفة الإمام القائد والحاكم لدولة الحق والعدل، بحيث ينتفي فيها الظلم والجور وينتشر العدل في الأحكام والقسط في الأنام، وهذا حلم الأنبياء وحلمنا في دولة آخر الزمان، وصاحب الأمر، وناموس الدَّهر الذي سيقوم مناداً بثلاث نداءات باسم جده الإمام الحسين، عليه السلام، وتلك هي غاية المعرفة حقاً.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا