الأزمات الاقتصادية والمشاكل المعيشية في العراق وفي أي بلد آخر تشبه في آثارها الملموسة، المرض الذي يصيب البدن، فالمصاب يئن من الألم، كما يضجّ صاحب العائلة من غلاء المعيشة وصعوبة الحصول على فرصة العمل ولقمة العيش، فأول ما نفكر به؛ زوال هذه المعاناة قبل التفكير بسبب نشوئها، التي ربما تكون علاجاً ناجعاً وحلولاً جذرية لكل ما نعيشه من أزمات.
من أهم و أبرز الأدوات الأخلاقية الناجحة؛ التكافل الاجتماعي، والتفكير بالمجموع وليس الانطواء على الذات
هذه هي سمات الإنسان المُحب للسلامة أبداً، عدم التعرض للمشاكل والضغوطات، فهو يحب أن يعيش الرغد والرفاهية، بينما الحياة الدنيا تنفي هذا التصور والنمط الضيق من التفكير، وهو ما ذكّر به القرآن الكريم وأحاديث المعصومين، عليهم السلام، على أن الحياة دار اختبار لمرحلة الحياة الآخرة التي وصفها القرآن الكريم بأنها {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، و{الْحَيَوَانُ} كناية عن الحياة الحقيقية الدائمة، مما يستدعي المزيد من الوعي للبحث عن الطريقة الفضلى للتعامل مع ألغام الحياة للخروج منها بسلام.
ومن أهم و أبرز الأدوات الأخلاقية الناجحة؛ التكافل الاجتماعي، والتفكير بالمجموع وليس الانطواء على الذات، وقد أثبتت تجارب الشعوب أن الضغوط المعيشية في ظروف الحرب او الكوارث الطبيعية، تستخرج الكوامن الخيّرة من النفوس، وتدفع الى الواقع الاجتماعي عشرات المتبرعين، ومئات المتكفلين، وتجعل الناس متقاربين بشكل مدهش أكثر مما كانوا في الظروف العادية.
ولا أجدني بحاجة الى أمثلة من المجتمع الإيراني خلال الحرب في ثمانينات القرن الماضي، والمجتمع العراقي خلال العقوبات الاقتصادية في تسعينات القرن الماضي، إنما مشكلة البعض الاعتقاد أنهم تلك الحقب كانت أيام وانطوت صفحتها للأبد، وعليهم البحث عن الرفاهية، بل البعض يفكر بتعويض ما فاته من جمع الثروة والامتيازات في تلك الأيام الخوالي!
ولذا نجد في سيرة المعصومين التحذير من مغبّة الاستغراق في المال والامتيازات ومظاهر الحياة والاستزادة منها بكل ثمن، “فالانسان الذي يأتي شَبَعَه بعد جوعه فانه يشكر الله -تعالى- أما الذي لم يذق في حياته الجوع، ولو مرة واحدة، فانه سوف لن يحسّ أن هناك جائعاً على الأرض، ومن ثم سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق”، (الابتلاء مدرسة الاستقامة- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
إن الهروب من المشاكل والقلق من الفقر ليست الطريقة الصحيحة للتفكير بحاضر ومستقبل جيد وفق تصورات البعض، بقدر ما ينبغي الاستعداد الدائم لاستقبال أي مشكلة أو أزمة تواجهنا، ومن غير المنطقي القول: أن بالإمكان محو الازمات والمنغّصات من حياتنا عندما يكون راتبنا الشهري بملايين الدنانير –مثلاً- أو نمتلك سيارة فارهة، وبيت كبير يحتوي على كل وسائل الراحة، الى جانب فرصة عمل في مكان مرموق، لأنه ببساطة صاحب هذا التفكير لا يعيش وحده في منطقته السكنية، فهو محاط بالجيران، وسيكون محتاجاً لأشكال المهن والحرف في الشارع والسوق، وربما يسوقه القدر الى المستشفى او مركز الشرطة او المحكمة او الدائرة الحكومية وهكذا القائمة تطول.
واذا نلاحظ تراكم الأزمات وتعقيد المشاكل في بلد مثل العراق، فالسبب لا يعود بالدرجة الأولى الى ذات المشاكل، وأنها من صنع المدير او الوزير او المسؤول…، بقدر ما يعود الى طريقة إدارتنا لهذه المشاكل، وكيف نتجاوزها بغير قليل من التكبّر والتعالي ونحن نحدث انفسنا –لسان حال البعض- “إنها مشكلة هذا أو ذاك وليست مشكلتي”، وعند هذه النقطة والعقدة تتوقف كل الحلول والنظريات وحتى المشاريع الحكومية العملاقة، بل حتى المواعظ الدينية ذات الصلة بالقرآن الكريم والمعصومين، عليهم السلام، لأن الحلول والأفكار عادةً تستهدف مشكلة او مسألة محددة، ولا تكون مشتركة لحزمة من الازمات المتداخلة ذات الجذور و المناشئ المختلفة.
ولا أدلّ ما نقول من أزمة الكهرباء المستعصية منذ عشرين عاماً في العراق، فالحلول والنظريات والمشاريع تدور حول نقطة واحدة فقط وهي كيفية تجهيز الاسلاك والخطوط الناقلة لكمية أكبر من الطاقة (ميغاواط) حتى لا تخنق حرارة الطقس الناس في بيوتهم صيفاً، ولا تحرمهم من المياه الساخنة شتاءً، بينما خلفيات المشكلة في طريقة الاستهلاك، ثم نظرة الناس الى الحكومة المتهمة بالفساد وعدم ثقتهم بها، ثم شعور البعض بأنه بحاجة الى استهلاك اكبر نظراً لبيته الواسع او مضيفه العامر او محله التجاري وما الى ذلك من سلوك عام ذو مدخلية مباشرة في حل هذه المعضلة.
وإذن؛ فإن شركة “سيمينز”، الألمانية، او “جنرال الكتريك” الأميركية ليست لهما الخبرة في التعامل مع أخلاق العراقيين وطريقة تعاملهم مع الكهرباء في ظل الظروف السياسية الحالية تحديداً، فهذه قضية ثقافية، بينما عملهم تقني وفني.
إن الهروب من المشاكل والقلق من الفقر ليست الطريقة الصحيحة للتفكير بحاضر ومستقبل جيد وفق تصورات البعض، بقدر ما ينبغي الاستعداد الدائم لاستقبال أي مشكلة أو أزمة تواجهنا
إن سقوط العراق في محنة التجاذبات السياسية تمثل فرصة للتفكير بكيفية التعامل مع افرازات هذا الواقع المفروض، فليس من المعقول الجلوس والمناحة على حظنا العاثر، إنما المطلوب “وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا، ففي كثير من الأحيان يكون النقد البناء، ومراجعة الماضي، وإعادة النظر في المسيرة، من صميم العمل الرسالي، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كإنسان، فما بالك بالقيادات، والعلماء والمفكرين”.
هذه الوقفة الشجاعة مطلوبة من جميع افراد المجتمع؛ الصغير والكبير، ومختلف شرائح المجتمع، لاسيما الشريحة الواعية والمتعلمة فهي المدعوة قبل الآخرين لأن تكون نموذجاً عملياً ناجحاً لعملية المراجعة والاستفادة من تجارب الماضي لمعالجة الحاضر ثم ضمان المستقبل.