أسوة حسنة

الإمام الرضا عليه السلام.. غربةٌ وجهاد

ولادته ونشأته: ولد الإمام الرضا، عليه السلام، سنة مئة وثمانية وأربعين للهجرة ومجموع عمره الشريف خمس وخمسون سنة، لأنه توفي عام مئتين وثلاثة للهجرة وهو بمقدار عمر أبيه الإمام الكاظم، عليه السلام، وكانت ولادته في المدينة المنورة في دارهم المعروف بالعريض وأمه أم ولد نوبية يقال لها أروى وتلقب بشقراء

إذن كان الإمام ابن جارية وهذه الظاهرة ليست غريبة ولا فريدة في تاريخ أهل البيت، عليهم السلام، والزواج من الجواري من الأمور التي دعا إليها الإسلام وحثَّ على فعلها وهناك عدة أهداف يرمي إليها الإسلام من وراء تزوّج الجواري والسراري وهذا هو الذي يفسر لنا سر إقبال أهل البيت على الزواج من الجواري ومن هذه الأهداف:

اولا: كسر نظرة التعالي عند العرب

وإنما قلنا: إنها ظاهرة ليست غريبة في حياتهم لأن غيرهم يستغربها حقاً، فالعرب كانوا يحتقرون ابن الجارية ويعتبرونه هجيناً وهي نظرة جاهلية لا تنسجم مع العقل ولا مع الشرائع السماوية وإنما تنسجم مع التقاليد. فالعقل يقول غير ذلك لأن هذه الجارية ربما كانت تتحدر من حضارة أضخم من حضارة العرب آنذاك هذا من ناحية العقل أما من ناحية الإسلام فإنه دين سماوي عالمي ورسالة عامة ويريد

ثانيا: تخفيف وطأة الفتح على ابناء البلاد المفتوحة.

ثالثا:التلاقح الفكري.

اهم ألقابه الشريفة:

الرضا: ويراد به رضا الله في أرضه ورضا الناس عنه في الدنيا لأنه نادراً ما واجه معارضة في ولاية العهد التي قبلها. وكان الأهم الأغلب يرى أن هذا

المنصب هو دون منصب الإمامة وهو كذلك فعلاً.

السلطان: وهو أبرز الألقاب بعد لقب الرضا وقد ورد في الزيارة الشريفة خاصته: السلام عليك أيها السلطان علي بن موسى الرضا، ونجد هناك إصراراً من البعض على هذا اللقب مع أنه لا يعني شيئاً له فمروان بن الحكم صار سلطاناً وكذلك يزيد، و أمثالهما فالإمام لا يزيده شيئاً كونه سلطاناً، فيكفي أن يقال عنه الرضا الوفي الصابر وغيرها من الألقاب الدينية الشريفة، ومثل هذا اللقب لا يقدم شيئاً للإمام ولا يؤخر.

عن إبراهيم بن العباس أنه قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا، عليه السلام، جفا أحداً بكلمة قط ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ، ولا مدَّ رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين بين يدي جليس قط

نشأ الإمام، عليه السلام، وتربى في حجر والده الإمام الكاظم، عليه السلام، فكان أن نال أحسن تربية وحاز أعلى القيم والمثل والمبادى، وهذا ما كان له دور كبير في تحديد شخصية المستقبلية، سلام الله عليه، حيث أدى ما عليه من رسالة على أتم وجه.

كان الإمام في المدينة المنورة يتصدى لنشر العلم على طريقة آبائه و اسلافه، حيث انه سلام الله عليه، كان يأخذ مجلسه في المسجد أو في بيته ويفد عليه الوافدون ليتزودوا من علمه ويستنيروا بهداه وفكره، والمؤرخون حينما يتناولون شخصية الإمام يذكرون له مواقف علمية عدة في هذا المجال ويروون عنه أنه ما سُئل عن مسألة لم يجب عنها قط.

جهاده العلمي وتطور الفتوى والإجتهاد

كانت أجوبتها كلها استنباطات من القرآن الكريم وهو ما يسمى بمرحلة الفتوى مع النص وذلك أن الافتاء أو الاجتهاد بعدة مراحل:

 الأولى: وهي مرحلة يكون فيها المفتي أو المشرع قريباً من النص أو يكون النص قريباً منه، كان يسأل سائل في زمن النبي، صلى الله عليه وآله: هل يجوز الأكل في شهر رمضان بعد شروق الشمس؟ فيأتيه الجواب: لا، لأن القرآن الكريم يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ المحيط الأبعض من المحيط الأسود من الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِتُوا القِيَامَ إِلَى الليل}. (البقرة/ الاية:١٨٧).

فهذا النص موجود ومعناه واضح وقريب جداً إلى الأذهان فيأتي الجواب مباشرة حول مثل هذا السؤال.

الثانية: وهذه هي المرحلة التي كانت في زمن الأئمة والتي تطوّر فيها الاجتهاد نوعاً ما حيث إن المعصوم لا ينتزع فيها الحكم أو الجواب من القرآن الكريم انتزاعاً؛ عن أبي بكر الحضرمي قال: كنت عند أبي عبد الله، عليه السلام، سأله رجل أنه نذر إن عوفي من مرضه أن يتصدق بمال كثير فما هو حد المال الكثير؟

 فقال له: التصدق بثمانين درهماً.

 فقال الرجل: وما الدليل على هذا؟

قال: إن الله عز وجل  يقول: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}، فعدّد تلك المواطن فكانت ثمانين، فالأمام هنا انتزع الحكم  والجواب من القران الكريم مباشرة، أي أن الإمام، عليه السلام، ليس بحاجة إلى استخدام الأدوات الفقهية لاستنباط الحكم الشرعي وإنما يأخذ الحكم مباشرة من الكتاب العزيز.

كان الإمام الرضا، عليه السلام، ليجلس متصدياً لأسئلة الناس حتى إن المأمون جمع له جماعة من علماء الأديان ليناظروه وراحت الأسئلة تنهال على الإمام فأجابهم جميعهم حتى إن المؤرخين يقولون: ما تلكأ في جواب قط وهكذا كان يتصدى للإجابة على جميع الأسئلة الفقهية وغير الفقهية.

وقف أحدهم للإمام له في الطواف وقال له: من الجواد؟ قال إن لكلامك وجهين: فإن كنت تسأل عن المخلوقين فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل من بخل بما افترض الله وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع لإنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.

ذلك إن الله تعالى عندما يمنع عطاءه عن بعض الناس فإنما يمنعه لمصلحة اقتضتها حكمته وارتأتها مشيئته كأن يريد أن يربيه، فبعض الناس إذا أعطي أفسد ونحن نخاطب الله بريين في دعاء الافتتاح فنقول: ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور.

وكانت الأسئلة تنهال عليه وكان يوزع وقته بين الإجابة على الأسئلة العلمية وبين الإجابة على غيرها من الأسئلة. وإضافة إلى هذا كان بيته مأمناً للخائف وكانت داره مرتاد الوفاد.

جوده وعطاءه وقبسات من اخلاقه الفاضلة

ما ردَّ أحداً عن حاجة يقدر عليها فهو معروف بعطائه المعنوي والمادي والأخلاقي؛ يروي أحد المؤرخين عن إبراهيم بن العباس أنه قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا، عليه السلام، جفا أحداً بكلمة قط ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ، ولا مدَّ رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين بين يدي جليس قط، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته بصق ولا رأيته يقهقه في ضحكه أبداً، بل كان ضحكه التبسم وإذا خلا ونصب مائدته أجلس معه عليها مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس.

كان الإمام الرضا، عليه السلام، ليجلس متصدياً لأسئلة الناس حتى إن المأمون جمع له جماعة من علماء الأديان ليناظروه وراحت الأسئلة تنهال على الإمام فأجابهم جميعهم

 وكان قليل النوم بالليل كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ويقول: ذلك صوم الدهر، وكان كثير المعروف والصدقة في السر وأكثر ذلك يكون منه في الليالي  المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقه.

فهذا الخلق العالي وهذه التربية النبيلة السامية وهذا الأسلوب الكريم يخرج من بطن أئمة أهل البيت؛ فهم في حركاتهم وسكناتهم، وفي كلامهم، وسكونهم مادة للدرس الأخلاقي المعنوي والوعظي والإرشادي وكان يقول، عليه السلام: “إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى احكاما لم يرها في دار الدنيا وقد سلم الله عز وجل على يحيى عليه السلام في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}  وقد سلم عيسى مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}.

فحق لنا نحن ان نفخر ونتفاخر بائمتنا”.

والان للامام الرضا، عليه السلام، قباب وضريح تناطح السماء، وزوار ووفاد من كل البسيطة، في بلاد الغربة بعيد عن الاهل.

فسلام عليك يا شمس الشموس، وانيس النفوس وغريب طوس.

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا