ولد الإمام الرِّضا في 11 ذو القعدة 148 هـ الموافق 28 نوفمبر 765 م في المدينة المنورة
مقدمة حوارية
الحوار من أقدم الأساليب الأدبية في الحياة البشرية وربما يصدق القول بأنه سبق وجود الإنسان في هذه الدنيا، وذلك حينما دار الحوار الأول بين الخالق تعالى وإبليس المتمرِّد على أمر خالقه بسبب آدم، عليه السلام، حيث حسده على مكانته ومقامه العظيم عند الله تعالى، فحقيقة الحوار بالتي هي أحسن جاءت بتعليم الذي علَّم بالقلم، ولم تأت من عند الإنسان نفسه.
وفي الحقيقة أنه لدينا منهجان في الحوار هما: منهج الرحمن الذي يتلخَّص {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، ومنهج الشيطان الذي يتلخَّص بالأنا والأنانية ومحاولة فرض الرأي الشخصي النابع من المصلحة أو الرؤية الشخصية على الآخر بالقوة أو بالمكر والحيلة والكذب كما فعل إبليس اللعين بأبوينا آدم وحواء (عليهما السلام).
حضارية الحوار
ونعني به منطقيته، وعقلانيته، بحيث يستخدم المحاور قوة المنطق والحجة، وليس منطق القوة والفرض والإكراه، فبالأول الحوار يكون حضارياً لأنه يعطي رؤية وفكرة حضارية مبنية على أساس من القيم الإنسانية الكبرى في هذه الحياة، وأما الآخر فهو الحوار الذي يحكمه اللا منطق فيعطي فكرة عقيمة، ورؤية شخصية ضيقة، يحاول أن يفرضها الطرف الذي يظن بنفسه أنه الأقوى بقوته المادية التي يملكها.
فالحوار لكي نطلق عليه حضارياً يجب أن يُبنى وينطلق من قواعد حضارية وأسس منطقية، وأصوله عقلانية ومنظومة القيم الإنسانية الكبرى التي تحكم القوى الإنسانية المختلفة والمنتشرة على سطح هذه الكرة الترابية، وهنا يجب ألا نلتفت إلى ما يُشاع ويُسوَّق له في عصر الحضارة الرقمية التي يحاول فيها الأقوياء فرض منطقهم وثقافتهم وحوارهم بالقوة، وينقصهم قوة المنطق والحجة والبرهان في كل ما يدَّعونه أو يفعلونه وها هو الواقع يفرض نفسه ويكشف عوراتهم النتنة حتى خرج عليهم أبناؤهم بعد مآسي غزة هاشم الصامدة، والنفاق والدَّجل والكذب المفضوح الذي يحاول تلميعه الغرب دون جدوى وهذه حقيقتهم ومنطقهم وديمقراطياتهم.
الإمام علي الرِّضا عليه السلام والحوار
ونحن نعيش هذه الأيام الربيعية الجميلة ذكرى مباركة وغالية على قلوبنا جميعاً وهي ولادة الإمام الثامن الضامن لزواره الجنة، الإمام علي بن موسى الرِّضا، عليه السلام، الذي بدأ حياته مبكراً معلماً وفقيهاً في مدرسة والده الإمام موسى بن جعفر الذي ورث أكبر جامعة في التاريخ إلى ذلك الحين، وذلك لأن السلطة العباسية الغاشمة لم تستطع أن تتحمل ذلك النور العظيم ينتشر في ليل العباسيين الدامس فكان المنصور الدوانيقي لا يستطيع أن ينام أو تقرُّ له عين وموسى بن جعفر في الحياة، فأمر بسجنه مراراً ونقله من سجن إلى سجن إلى طامورة لا يعرف فيها الليل من النهار حتى قضى فيها شهيداً ورُمي بجثمانه النحيل على جسر بغداد.
الإمام الرضا، عليه السلام، كان يحاورهم بأسلوب جميل، وجذاب، وطريقة علمية راقية، مع الحضور الكامل لمنظومة القيم الإنسانية التي يشتركون بها ويتعارفون عليها
فالذي سدَّ مكانه وقام مقامه كان ووريثه ووصيه ولده الأبرز والأرقى الإمام علي الرِّضا، عليه السلام، فبدأ بالتدريس وما بلغ العشرين من عمره الشريف، في حلقات الدرس في مسجد جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، كما أنه تكفَّل بالعائلة الكريمة من إخوته وأخواته ومَنْ يتصل به بسبب أو نسب، وهنا أهمل التاريخ للأسف الشديد تفاصيل تلك الحقبة من حياة الإمام الرِّضا.
ولكن ظهرت الحقائق والأسلوب الراقي حينما أحضره عبد الله المأمون قسراً من المدينة إلى مرو ثم إلى خراسان ليكون تحت الأنظار، ويستغل اسمه الشريف في تثبيت كرسي الخلافة الذي كان يهتز ويضطرب بعد تلك الأحداث الدامية والحروب بين الأخوين الأمين والمأمون ووجود المنتصر وهو المأمون بعيداً عن مركز السلطة وعاصمة الدولة العباسية بغداد فاستخدم اسم وشخصية الإمام الرِّضا، عليه السلام، والتظاهر بتنصيبه في ولاية العهد ليُعيد العباسيين وكل مَنْ كان مع الأمين إلى تحت جناحه وما أن تمَّ له ذلك حتى تخلَّص من الإمام الرِّضا، عليه السلام، بدسِّ السَّم له والقضاء عليه ودفنه بجوار والده في خراسان ثم عاد إلى بغداد مطمئناً على عرشه وكرسيه.
فالشخصية الحوارية الحضارية ظهرت من الإمام الرِّضا في تلك المجالس التي كان يعقدها عبد الله المأمون ويبحث عن زلَّة أو مسألة يقف بها الإمام ليقول: إنه ليس بإمام، كما قال لسليمان المروزي عندما أرسل إليه وطلب منه أن يحاور الإمام وقال له: إِنَّمَا وَجَّهْتُ إِلَيْكَ لِمَعْرِفَتِي بِقُوَّتِكَ، وَلَيْسَ مُرَادِي إِلاَّ أَنْ تَقْطَعَهُ عَنْ حُجَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ. (عيون الأخبار للصدوق: ج۱ ص۱۷۹)
ولذا ترى المأمون جهد طوال أكثر من سنتين من إقامته في مرو وخراسان في هذا السبيل إلا أن الإمام الرضا “عالم آل محمد”، أثبت له ولكل المحاورين، وللتاريخ والأمة الإسلامية بأنه إمام مفترض الطاعة من الله تعالى، ومنصوب ومعيَّن من رسول الله، ولا يمكن قطع حجته لأنه ينطق عن الله، وهو الثقل الأصغر والقرآن الناطق، وأنَّى للبشر أن يقطعوا حجته.
والعجيب في تلك الحواريات -التي يصح عليها اسم حوار الحضارات- لما تحتويه من علماء الأديان وغيرهم حيث كان يجمعهم المأمون وهو الخليفة الحاكم من كل الأديان وأرباب المقالات كاليهود، والنصارى، والمجوس، والزرادشتيين، والدهريين، والصابئة، والفقهاء، والعلماء، والنواصب، والحرورية من الخوارج، وغيرهم ممَّن يقال أن عنده علم من العلوم الدينية والدنيوية.
ولكن الإمام الرضا، عليه السلام، كان يحاورهم بأسلوب جميل، وجذاب، وطريقة علمية راقية، مع الحضور الكامل لمنظومة القيم الإنسانية التي يشتركون بها ويتعارفون عليها، ويعطي المجلس حقه وكل من الجلساء والمحاورين حقه في الكلام، والدفاع عن رأيه ودينه وعقيدته ويسير معه خطوة خطوة إلى أن يقطعه، أو يعترف بالعجز وبأن الإمام أعلم بما عنده منه.
حضارية الحوار الرَّضوي
وهنا يمكن أن نتحدَّث طويلاً ولدينا الكثير من الشواهد على حضارية الحوار الرَّضوي وذلك لأنه كان بمحضر السلطان القوي والفاهم الذكي الذي لم ينجب بنو العباس مثله بعلمه ومعرفته وثقافته بعد جده عبد الله بن عباس، فكان الحوار منضبطاً وقوياً ولا مجال فيه للجدل العقيم، بل يكون الحوار علمي رصين ولا يمكن لأحد المتحاورين أن يهرب قبل أن يعترف بالحق، وكان الإمام الرِّضا، عليه السلام، يعتمد على قواعد الحوار التي رسَّخها القرآن الحكيم، من حيث المنطق السليم، وبالتي هي أحسن، وإنا أو إياكم لعلى هدى، فلم يتحدَّث التاريخ أنه قطع على أحد كلامه قبل أن يتمَّه، أو أنه ترفَّع عن حواره بسبب كفره أو شركه بل كان يعطي الطرف الآخر كامل الحرية ويسير معه إلى النهاية المنطقية للحوار الحضاري.
الحوار لكي نطلق عليه حضارياً يجب أن يُبنى وينطلق من قواعد حضارية وأسس منطقية، وأصوله عقلانية ومنظومة القيم الإنسانية الكبرى التي تحكم القوى الإنسانية المختلفة
ففي مجلس حواري رائع وراقي جداً من تلك المجالس وهي في الحقيقة مدارس يجب أن نتعلم منها أسلوب الحوار والنقاش لإقامة الحجة من الإمام علي بن موسى الرِّضا، عليه السلام، سآخذ جوَّ الحوار وأترك التفاصيل للأخوة الأعزاء أن يرجعوا ليقرأوا ويتمتعوا ويتعلموا من الإمام الثامن هذه الطريقة الحضارية في الحوار، يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى اَلْمَأْمُونِ أَمَرَ اَلْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ أَصْحَابَ اَلْمَقَالاَتِ مِثْلَ اَلْجَاثَلِيقِ، وَرَأْسِ اَلْجَالُوتِ، وَرُؤَسَاءَ اَلصَّابِئِينَ، وَاَلْهِرْبِذَ اَلْأَكْبَرَ، وَأَصْحَابَ زَرْدَشْتَ، وَنِسْطَاسَ اَلرُّومِيَّ، وَاَلْمُتَكَلِّمِينَ لِيَسْمَعَ كَلاَمَهُ وَكَلاَمَهُمْ فَجَمَعَهُمُ اَلْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثُمَّ أَعْلَمَ اَلْمَأْمُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ عَلَيَّ فَفَعَلَ فَرَحَّبَ بِهِمُ اَلْمَأْمُونُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي إِنَّمَا جَمَعْتُكُمْ لِخَيْرٍ وَأَحْبَبْتُ أَنْ تُنَاظِرُوا اِبْنَ عَمِّي هَذَا اَلْمَدَنِيَّ اَلْقَادِمَ عَلَيَّ فَإِذَا كَانَ بُكْرَةً فَاغْدُوا عَلَيَّ وَلاَ يَتَخَلَّفْ مِنْكُمْ أَحَدٌ..
ثم أرسل يَاسِرٌ اَلْخَادِمُ وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ أَبِي اَلْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي إِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ يُقْرِئُكَ اَلسَّلاَمَ وَيَقُولُ: فِدَاكَ أَخُوكَ إِنَّهُ اِجْتَمَعَ إِلَيَّ أَصْحَابُ اَلْمَقَالاَتِ وَأَهْلُ اَلْأَدْيَانِ وَاَلْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ جَمِيعِ اَلْمِلَلِ فَرَأْيُكَ فِي اَلْبُكُورِ إِلَيْنَا إِنْ أَحْبَبْتَ كَلاَمَهُمْ، وَإِنْ كَرِهْتَ ذَلِكَ فَلاَ تَتَجَشَّمْ وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ نَصِيرَ إِلَيْكَ خَفَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا.
فَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ: أَبْلِغْهُ اَلسَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ قَدْ عَلِمْتُ مَا أَرَدْتَ وَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْكَ بُكْرَةً إِنْ شَاءَ اَللَّهُ.
ثم يخبر عن ندم المأمون من عقد هذا المجلس (إِذَا سَمِعَ اِحْتِجَاجِي عَلَى أَهْلِ اَلتَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ، وَعَلَى اَلصَّابِئِينَ بِعِبْرَانِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلْهَرَابِذَةِ بِفَارِسِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ اَلرُّومِ بِرُومِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَصْحَابِ اَلْمَقَالاَتِ بِلُغَاتِهِمْ، فَإِذَا قَطَعْتُ كُلَّ صِنْفٍ، وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ وَتَرَكَ مَقَالَتَهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِي عَلِمَ اَلْمَأْمُونُ اَلْمَوْضِعَ اَلَّذِي هُوَ سَبِيلُهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ لَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ اَلنَّدَامَةُ وَلاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ). (عيون الأخبار: ج۱ ص۱۵4).
كم هو جميل أن نتعلَّم في عصر العلم والحضارة الرقمية هذا الأسلوب في الحوار الهادئ، والهادف للوصول إلى الحق دون عناد، أو عصبية، أو تطرف، أو استخدام لمنطق القوة في فرض الرأي على كل الأطراف بل نستخدم المنطق السليم، والرأي الصحيح، ونطرحه بطريقة جميلة وبالتي هي أحسن كما كان يحاور حضارياً سيدنا ومولانا الإمام الثامن من أئمة المسلمين علي بن موسى الرِّضا (عليه آلاف التحية والسلام).