لم تبق سوى أياماً معدودات على انقضاء شهر رمضان المبارك، وتصرّم لياليه الجميلة العامرة بالذكر والعبادة والتهجّد والتقرّب الى الله –تعالى-، ولعل أبرز نوافذ التقرّب الى المائدة الرحمانية؛ القرآن الكريم الذي حثّ أهل البيت، عليهم السلام، على تلاوته في أيام وليالي هذا الشهر الفضيل للاستزادة من المعرفة والعلم، وان يكون وسيلة لصقل النفوس وتنقية القلوب.
ونظراً لتطابق أيام الشهر الثلاثين مع الثلاثين جزءاً للقرآن الكريم، نرى الحرص والاهتمام مع افراد الامة في كل مكان لحضور المحافل والمجالس، او ربما بشكل منفرد بتلاوة كل جزء في كل يوم، ليكون قد ختم القرآن مع نهاية الشهر الفضيل.
ولعل ثمة حكمة من هذا التطابق لأن تكون آيات القرآن حاضرة في حياتنا بشكل مستمر، وأن تجد كل كلمة في القرآن مكانة في كياننا الشخصي، وفي حياتنا العائلية، وعلاقاتنا الاجتماعية، فضلاً عن علاقتنا بالله –تعالى-، وهذا يكون عندما نتلو القرآن الكريم بمزيد من التمعّن والتدبر، بل أن نقرأ ونتوقف لحظات لاقتطاف العِبر مما جرى على الاقوام البشرية من فشل في علاقاتها مع الأنبياء والمرسلين، مما عرضهم للعقاب الإلهي بسبب سوء أعمالهم وكفرهم وتمردهم على الحق.
ركّز القرآن الكريم على أحوال بني إسرائيل في سور عديدة، وجاءت الآيات صريحة و و واضحة مع سبك جميل أخّاذ يشرح مسيرة صعود وتألق هذه الجماعة البشرية في عهد النبي موسى، عليه السلام، ثم انحدارهم وتسافلهم بسبب تفضيلهم رغباتهم النفسية ومصالحهم الشخصية على رسالة السماء، متناسين الفضل الكبير بانقاذهم من العبودية المهينة الى حيث {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
هذه الآيات يجب التوقف عندها ملياً وعدم المرور عليها مرور الكرام بدعوى سرعة التلاوة لإنهاء قراءة الجزء حسب الوقت المقرر، او حتى لا تتراكم فيما بعد!
ليس المهم الوقت الذي يستغرقه تلاوة هذا الجزء او ذاك، إنما المهم والمطلوب ما نكسبه من الآيات الكريمة لما يفيدنا في حياتنا ولآخرتنا، وهو ما يستحق الكثير منّا بأن نخصص وقتاً مفتوحاً للقرآن الكريم، لا أن نجعله وسيلة “للترف الروحي” إن جاز التعبير، على غرار “الترف الفكري”، بأن نمر على الأحكام والافكار والمواعظ والزواجر كما لو أنها لا تعنينا لأننا مملتئون علماً ومعرفة وحكمة! ويكون ختم القرآن الكريم في نهاية شهر رمضان نوعاً من تلبية حاجة نفسية تجعل صاحبها غير متخلف عن الآخرين.
التأنّي في التلاوة تجعلنا نحترم اللغة العربية أكثر وهي تتألق بكل المحسنات اللغوية والأدبية من بلاغة ومجاز وصور بديعة رائعة تقرّب الينا المعاني والدلالات الكبيرة والعظيمة، وتجعلنا نفرّق بين فعل “تُقتلون” بضمّ التاء، و “تَقتلون” بفتح التاء، فالاولى فعل مبني للمجهول يوقع القتل من فاعل مجهول، بينما الفضل المضارع الثاني، صحيح بصيغة جمع مؤنث سالم، او حركة آخر كلمة لفظ الجلالة “الله” لها دور في قلب المعنى بشكل ينافي الربوبية، وهي الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فاذا قُرأ لفظ الجلالة بالرفع وليس بالنصب، يكون الله –حاشاه تعالى- هو الذي يخشى وليس العلماء. وهكذا أمثال لا تُعد في الكتاب المجيد لمن يقرأ بتمعّن يجدها تترى أمام ناظريه فيتحسسها ويشعر بالفخر والاعتزاز بهذا العمق اللغوي والمتانة والأدب الرفيع في مخاطبة بني البشر لعلهم يرشدون.
و في الأيام الأخيرة من شهر رمضان جديرٌ بنا، ونحن نتسابق مع الزمن والأيام حتى لا نتأخر عن تلاوة الأجزاء حسب تسلسل الأيام، أن نلتفت على الى مقدار ما جنيناه من هذه الواحة الرحمانية، فهل تذكرنا حُسن الخلق مع الوالدين والاقربين؟ وهل تفحّصنا ذواتنا ونفوسنا وما تكنّه من حالات تطرأ عليها فجأة، او هي مترسبة، او ما يرين على القلب –كما يعبّر القرآن الكريم- ويخلق الحواجز بين الانسان وبين ربه وبين الناس، مثل الكِبر، والحسد، ومشاعر الضِعة؟ وهل تلعمنا كيف نكتشف الحقائق في الحياة بطريقة لا نندم بعدها أبدا؟
اعتقد ان أصحاب المحافل القرآنية من الرجال والنساء والشباب، او من له معرفة بأحكام القرآن وتلاوته أن يذكروا إخوانهم واخواتهم وأهلهم بهذه الملاحظات وعدم المرور السريع على الآيات الكريمة دون التحقق من القراءة الصحيحة لغوياً، ودون الاغتراف من العبر والمعاني العميقة من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ومن الأحكام والآداب والقوانين الاجتماعية والسياسية الواردة في السور المدنية، وكيف كانت علاقة النبي مع المجتمع الإسلامي الأول.
نسأل الله –تعالى- ان التوفيق للاستضاءة بنور القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل، والاستزادة معرفياً و روحياً لنرتقي الى حيث التكامل الإنساني والأخلاقي ونكون من المرضيين والمرحومين مع نهاية شهر رمضان المبارك.