معظم العظماء عبر التاريخ لم تنصفْهم الحياة الدنيا، فمع كل ما قدموه للبشرية من خدمات جليلة وكبيرة، إلا أنهم يتعرضون غالبا إلى الغدر، وإلى الإساءة التي لا تليق بمقامهم، وبدلا من تقديم الشكر والعرفان لهم على ما قدموه من أجل تطوير حياة البشر، تتم مواجهتهم بأفعال غادرة وشنيعة لا يقبل بها عُرف ولا تشريع ولا ضمير حي.
هذا ما حدث مع رمز العدالة الاجتماعية، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، ففي فجر أحد الليالي المظلمة، قام اللعين بن ملجم بفعلته الخسيسة الغادرة، حيث تطاول على أنبل القلوب وأطهرها وأعظمها، وأقرب الرموز إلى الله تعالى نورا وأفكارا وأعمالا، إنه الإمام علي، عليه السلام، الذي أطعم المجرم بن ملجم وكساه وحماه وأعاد له وقاره ومنحه الطمأنينة والأمان، لكنه مع كل ذلك غدر بمن مدّ له يد الخير والأمن والسلام.
🔺 لا جوع في دولة الإمام علي، ولا تمايز، ولا تفاوت طبقي، ولا ثراء فاحش في مقابل فقر مدقع، الجميع سواسية في الحقوق والواجبات
أربع سنوات أو أكثر قليلا، قاد فيها أمير المؤمنين، عليه السلام، المسلمين، فجعل منهم أمة لا تُبارى، وصنع دولة مترامية تهابها الدول والأمم الأخرى وتحترم وجودها وكينونتها، وفي هذه السنوات الخاطفة، سادت العدالة الاجتماعية بين جميع مواطني دولة المسلمين، مسلمين ونصارى وغيرهم من الانتماءات الأخرى، يكفي إن الإنسان من رعاية الدولة، وهذا كفيل بحمايته، والتعامل معه وفق منظور العدالة العلوية الكريمة.
فلا جوع في دولة الإمام علي، ولا تمايز، ولا تفاوت طبقي، ولا ثراء فاحش في مقابل فقر مدقع، الجميع سواسية في الحقوق والواجبات، لا أحدا أفضل من أحد، وما يحصل عليه الإنسان من مردود مادي أو معنوي يعود إلى مؤهلاته وقدراته وما يقدمه الإنسان من أعمال وما ينتجه من قضايا وأشياء فكرية ومعنوية ومادية مفيدة للآخرين.
في إحدى جولات الإمام علي، عليه السلام، وهو كعادته المعروفة يطلّع على أحوال الناس، رأى حالة مستغرَبة تتمثل بوجود شيخ طاعن بالسن، يجلس على قارعة الطريق، يتكفّف ويستجدي لقمة العيش، لم تكن هذه الحالة معتادة في حكومة الإمام عليه السلام، فطلب الاطلاع على الحالة، وعرف من الشيخ الطاعن بالسن، بأنه نصراني بعد أن بلغ من العمر عتيّا تم رميه إلى أرصفة الشوارع، وهذا وحده كفيل بإشعال الحنق والغضب عند قائد المسلمين الأعلى فأمر بمعالجة هذا الخطأ الكبير.
وكما نقرأ في قصة الإمام، عليه السلام، مع النصراني المكفوف؛ حيث كان الإمام، عليه السلام، في شوارع الكوفة فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف، عليه السلام، متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي انه، عليه السلام، رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟، قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف.
🔺 بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمئة سنة، لم يستفد المسلمون من تلك الدروس العظيمة التي قدمها أمير المؤمنين عليه السلام في مجال العدالة الاجتماعية
فقال الإمام عليه السلام: ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً”. (وسائل الشيعة: ج11 ص49 باب19 ح1).
وفي هذه الخطوة تطبيق حازم للعدالة الاجتماعية في حكومة الإمام علي، فلا فرق بين مواطن نصرني ومواطن مسلم، الكل سواسية في الحقوق والواجبات طالما أن الإنسان ضمن رعاية دولة المسلمين ومنتمٍ إليها، هذا يكفي لكي تترتب له حقوق عادلة تحفظ له مكانته وكرامته كإنسان يستحق التعامل بإنسانية عالية، وهذا هو منهج العدالة الاجتماعية الذي رسخه الإمام علي عليه السلام، وطبق من خلاله تعاليم الإسلام بحذافيرها، وأسس لهذه الخطوة العظيمة التي كان لها الأثر الكبير في شيوع القبول الشعبي العام.
ولكن بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمئة سنة، لم يستفد المسلمون من تلك الدروس العظيمة التي قدمها أمير المؤمنين عليه السلام في مجال العدالة الاجتماعية، وذلك ما نلاحظه اليوم في بعض الدول الإسلامية، حيث تغيب أسس ومناهج العدالة الاجتماعية عن التطبيق العملي في حياة الناس، في حين كان الأجدر بساسة المسلمين وقادتهم أن يستذكروا ذلك التاريخ الناصع للإمام علي، عليه السلام، وهو يتعامل مع السلطة كأداة لخدمة الناس، ولنشر العدالة فيما بينهم.
هذا الدرس يستدعي من حكام المسلمين اليوم أن يستعيدوا التاريخ الناصع والسيرة الغنية للإمام علي عليه السلام، ونحن نعيش ذكرى استشهاده، فينبغي العودة إلى تلك الأسس التي بدأ أمير المؤمنين وغرس من خلالها قيم العدالة الاجتماعية بين المسلمين، وحارب التفاوت الطبقي بكل أشكاله، ونشر العدالة بين الجميع وجعلها الهدف الأسمى للحكومة والدولة.