-1-
في ليلة العاشر من المحرم، وعندما عرض عمر بن سعد على الإمام الحسين، عليه السلام، عِبر أخيه العباس، النزول عند أمر عبيد الله بن زياد أو المنازلة والقتال، قال، عليه السلام، لأخيه العباس:
“ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى الْغُدْوَةِ وَتَدْفَعَهُم عَنَّا الْعَشِيَّةَ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَار”(1).
-2-
وفي يوم عاشوراء، وعندما أصرّ معسكر الضلال والطغيان على محاربة الإمام الحسين، عليه السلام، ومن معه من أهل بيته وأصحابه، خاطبهم الإمام لإتمام الحجة عليهم قائلاً: “فَإِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ طَوَاغِيتِ الْأُمَّةِ، وَشُذَاذِ الْأَحْزَابِ، وَنَبَذَةِ الْكِتَابِ، وَنَفَثَةِ الشَّيْطَانِ، وَعُصْبَةِ الْآثَامِ، وَمُحَرِّفِي الْكِتَابِ، وَمُطْفِئِ السُّنَنِ”، ثم وصفهم بأنهم: “صُرَّاخ أَئِمَّةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِين” (2).
-3-
وعندما احتدمت المعركة بين أنصار الحق وجنود الباطل، وجّه الإمام الحسين، عليه السلام، خطابه لأصحابه الأوفياء قائلاً لهم: “يَا أُمَّةَ الْقُرآنِ، هَذِهِ الْجَنَّةُ فَاطْلُبُوهَا، وَهَذِهِ النَّارُ فَاهْرَبُوا مِنْهَا”(3).
-4-
وعندما سقط حبيب بن مظاهر في أرض المعركة شهيداً بعد مواجهة ضارية مع الأعداء، خاطبه الإمام الحسين، عليه السلام: “للهِ دَرُّكَ يا حَبيبُ! لَقَدْ كُنْتَ فاضِلاً تَخْتِمُ الْقُرآنَ في لَيْلَة واحِدَة”(4).
-5-
واستفاضت الروايات التاريخية العديدة عن أنَّ رأس الإمام الحسين، عليه السلام، كان يتلو القرآن وهو مرفوع على الرمح. فقد قال الشيخ المفيد: ولما أصبح عبيد الله بن زياد، بعث برأس الحسين، عليه السلام، فدير به في سكك الكوفة وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه مُرَّ به عَلَيَّ وهو على رمح وأنا في غرفة لي، فلما حاذاني سمعته يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا}، فقفَّ والله شعري علي، وناديت: رأسك يابن رسول الله أعجب وأعجب (5).
-
القرآن الناطق
لقد كان القرآن حاضراً مع الحسين في عاشوراء، فهو لم يرفع السيف في وجه الطغاة والجائرين إلا دفاعاً عن رسالة الله وكتابه، ولم يكن الإمام الحسين، عليه السلام، طالباً لسلطة أو جاه، إنما نهض ضد الضلال والإنحراف لإعادة الروح إلى الدين وتذكير الأمة بالقرآن.
فهو في ليلة العاشر يطلب تأجيل المواجهة ليوم غد، لأنه يحب الصلاة وتلاوة القرآن، ويريد أن يقضي ليلته في الصلاة والدعاء والتلاوة.
وعندما يتحدث مع أعدائه يصفهم بأنهم “نَبَذَة الكتاب”، و “محرِّفي الكتاب”، وأنهم من “الذين جعلوا القرآن عضين”.
أما أصحابه وأهل بيته فهم “أمة القرآن”، منهم؛ حبيب ابن مظاهر، ذلك الرجل الفاضل الذي كان يختم القرآن في ليلة واحدة.
وحتى بعد استشهاده، سلام الله عليه، سُمِع رأسه الشريف مرات ومرات يتلو آيات من القرآن الكريم.
فلا نخطئ إذا سمينا الإمام الحسين، عليه السلام، بأنه شهيد القرآن، فنهضته كانت من أجل مبادئ القرآن، ولتذكير الأمة بضرورة العودة لكتاب الله، وَفَضْحِ السلطة الحاكمة باسم الخلافة الاسلامية، بأنهم “نَبَذَة الكتاب”، و”محرِّفي الكتاب”.
وإحياء ذكرى عاشوراء، وكل الشعائر ومراسيم العزاء، ينبغي أن تصب في نفس الرافد الحسيني الذي كان الدفاع عن القرآن من أبرز أهدافه.
وقيمة كربلاء تنبع من أنها كانت من أجل الله –تعالى- والقرآن والرسالة، وعظمة عاشوراء تتجلّى في أنّ شهيدها كان القرآن الناطق دفاعاً عن القرآن المنزَل من عند الرب المتعال.
-
الانطلاق من النهضة الحسينية لفهم القرآن
ولا يمكن لأنصار الحسين -في كل زمان و مكان- إلا أن يكونوا أنصاراً للقرآن أيضاً، فالحسين والقرآن لم ولن يفترقا، فقد سمعنا رسول الله، صلى الله عليه وآله، قبل أن يوافيه الأجل ويرحل الى بارئه -عز وجل- يقول -حسب رواية ابي ذر الغفاري-: “إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض”(6).
فعلى أنصار الحسين، عليه السلام، أن لا يفرِّقوا بينهما، فليس مقبولاً أن ندّعي التمسّك بالعترة فقط وندع كتاب الله جانباً، أو نزعم أنه لمن خوطب به، كما لا يصح أن نقول: “حسبنا كتاب الله”، ونتخلّى عن العترة ونزعم أنَّ باستطاعتنا الفوز في الدارين بالتمسك بالكتاب وحده.
إن خارطة طريق السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة يرسمها قلم السُنّة والسيرة من جهة، وكلمات كتاب الله من جهة أخرى. والمطلوب منا أن نعمِّق ارتباطنا بهما معاً، وأن ننطلق من الحسين ونهضته لفهم كتاب الله، وأن نتلو آيات الذكر الحكيم ونتدبّر فيها لكي نستوعب منطلقات النهضة الحسينية ونستدعيها الى حياتنا اليومية.
1- عند خروجه، عليه السلام باتجاه الكوفة قال -فيما قال-: “إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ”(7)، لأنَّ القرآن قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (سورة آل عمران 110).
إذاً؛ نصير الحسين، عليه السلام، لابد أن يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مقدمة أولويات برنامجه الحياتي واليومي.
2- وعندما يشرح الإمام، عليه السلام، أهداف نهضته، يقول مخاطباً رب العالمين: “لِنُرِيَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، وَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرَائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكَامِك”(8)، ينطلق من آيات الذكر الحكيم: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}، (سورة البقرة، 224) و{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، (سورة التوبة، 105) و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، (سورة التوبة، 33) و{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}. (سورة قريش، 3-4)
وهكذا تجد الاندماج الكامل بين الكتاب الناطق، وهو الامام الحسين، عليه السلام، والكتاب الصامت، وهو القرآن، كما جاء الوصف على لسان أمير المؤمنين، عليه السلام. وهكذا علينا أن نجعل سيرة وسنة المعصوم الى جانب الوحي الالهي قاعدتين متكاملتين لبرمجة حياتنا الدنيوية التي ارادها الله لنا حياة طيبة، ومزرعة للآخرة.
—————————–
1- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج2، ص: 90، و: تاريخ الطبري، ج4، ص316. 2- بحار الأنوار، ج45، ص8.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين، ص537، عن: معالي السبطين، ج1، ص361.
4- المصدر.
5- بحار الأنوار، ج45، ص121، عن: الإرشاد، ج2، ص117.
6- دعائم الإسلام، ج1، ص28.
7- بحار الأنوار، ج44، ص329.
8- بحار الأنوار، ج97، ص81.
مقال اكثر من رائع احسنتم