(ولد الإمام علي (ع) في جوف الكعبة في 13 رجب الأصب بعد ثلاثين سنة من عام الفيل)
- مقدمة تربوية
التربية هي اللبنة الأولى في التنشئة الإنسانية، والبناء الحضاري الفعَّال في حياة الإنسان، وهي الهدف الأساسي لبعثة الأنبياء والرُّسل وإنزال الصُّحف والكتب من السماء، لأنها جميعها تهدف إلى تربية الإنسان وهدايته بحيث أنه يليق بالجوار المقدس لخالقه سبحانه وتعالى، وليكون {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.(سورة القمر: 55).
فمهمَّة الأنبياء وبعثة الرُّسل الكرام هي تربوية بالدَّرجة الأولى، وهذه التربية تجعل الإنسان متهيِّأ للهداية وتقبُّل الرسالة، أو الأمر الإلهي سواء بالفعل أو بالترك، لأنه سيكون بأمر الله يعيش حياته كلها، ولا أمر ولا ذاتية ولا خصوصية له في قبالة الله بل يسمع ويطيع ويسلِّم الأمر إليه تسليماً، وهذه درجة المخلَصين من عباد الله الصالحين من الأنبياء، والأوصياء، والأولياء وحسن أولئك رفيقا.
🔺 إذا كان نبينا محمد، صلى الله عليه وآله، ربَّاه الله على أخلاقه وأدَّبه بآدابه فإنه نقل ذلك كله إلى أخيه أمير المؤمنين عليه السلام
والتربية لها مناهج وطرائق شتى لا سيما في هذا العصر حيث تفجُّر العلوم وتوسُّع المشارب والمآرب في العلوم الإنسانية ولكن أطبقت كل المناهج التربوية على أن التربية بالقدوة هي من أنجح وأفضل وأنجع مناهج التربية بالنسبة للإنسان في كل زمان ومكان ولذا عمل أصحاب الحضارة الرقمية على تشويه القدوات الإلهية، وفرض نماذج تافهة جداً من الفنانين، والممثلين، والسَّاقطين من أجل إشاعة عصر التفاهة حسب كتاب آلان دونو (عصر التفاهة).
- التربية الإسلامية الراقية
ولذا يؤكد ديننا الحنيف وحضارتنا الراقية على المسألة التربوية كمقدمة للهداية وصناعة الإنسان الإلهي بكل معنى الكلمة، بل وتأمرنا بمنهج القدوة والأسوة في ذلك، حيث يقدِّم الرَّب ــ سبحانه ــ في القرآن الحكيم لنا القدوة ويأمرنا باتباعها والاقتداء بها في كل شيء حيث قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، (سورة الممتحنة: 4)، فإبراهيم خليل الرَّحمن كان نعم القدوة في الإيمان والإخلاص واليقين، وكذلك جعل الرسول الخاتم قدوة للعالمين بقوله ــ تعالى ــ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(سورة الأحزاب: 21)، فرسول الله الأكرم قدوة وأسوة لنا، لأنه أدَّبه الله وربَّاه على عينه وخلَّقه بأخلاقه التي أرادها حيث قال، صلى الله عليه وآله: “أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي”، ولذا “كَانَ خُلُقُهُ اَلْقُرْآنَ”، وهو كلام الله.
- علي وليد الكعبة
ومن المعروف الشِّبه بديهي في التاريخ الإسلامي هذه الحقيقة وهي أن الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، هو الوحيد الذي وُلد في الكعبة المشرَّفة في يوم الجمعة 13 رجب بعد ثلاثين سنة من عام الفيل وولادة ابن عمِّه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، ولكن أبواق الضَّلال، ووعاظ السَّلاطين منذ قرون وهم يحاولون تشويه هذه الحقيقة، وطمس الآية الكبرى في ذلك وهي انشقاق البيت العتيق ودخول السيِّدة فاطمة بنت أسد إلى الكعبة وما يسمَّى إلى الآن بالمستجار وهو الرُّكن الشَّامي المقابل للرِّكن اليماني والباب، الذي ينشق ويتصدَّع في كل عام، ولقد جهد أئمة الضَّلال وأشياعهم على طمس هذه الآية الرَّبانية الشَّاهدة المتجددة على ولادة كعبة القلوب والأرواح في كعبة العبادة وقبلة الصلاة.
والعجيب أن السيدة فاطمة بنت أسد تعلم علم اليقين أنها حامل مقرب للولادة، ولكن رغم ذلك خرجت للطواف بالكعبة المشرفة، وهي تعلم أيضاً أن للبيت باباً ومفاتيحه مع أبناء عمومتها من بني عبد الدار، وهي زوجة سيد قريش بلا منازع بل سيد البطحاء وبيضة البلد، ولو طلبت المفاتيح لأتتها ودخلت من الباب كما العادة، ولكنها عندما وصلت إلى الرُّكن الشَّامي رفعت صوتها بالدعاء، وقد سمعها كل مَنْ كان قريباً منها حيث قالت: “يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنَةٌ بِكَ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ مِنْ رُسُلٍ، وَكُتُبٍ وَإِنِّي مُصَدِّقَةٌ بِكَلاَمِ جَدِّي إِبْرَاهِيمَ اَلْخَلِيلِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَإِنَّهُ بَنَى اَلْبَيْتَ اَلْعَتِيقَ فَبِحَقِّ اَلَّذِي بَنَى هَذَا اَلْبَيْتَ، وَاَلْمَوْلُودِ اَلَّذِي فِي بَطْنِي إِلاَّ مَا يَسَّرْتَ عَلَيَّ وِلاَدَتِي”.
ويكمل الرواية يَزِيدُ بْنُ قَعْنَبٍ الذي قَالَ: “فَرَأَيْتُ اَلْبَيْتَ قَدِ اِنْشَقَّ عَنْ ظَهْرِهِ وَدَخَلَتْ فَاطِمَةُ فِيهِ وَغَابَتْ عَنْ أَبْصَارِنَا، وَعَادَ إِلَى حَالِهِ فَرُمْنَا أَنْ يَنْفَتِحَ لَنَا قُفْلُ اَلْبَابِ فَلَمْ يَنْفَتِحْ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي اَلْيَوْمِ اَلرَّابِعِ وَعَلَى يَدِهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
فالأمر من تدبير الرَّب الخالق وليس من تدبير البشر المخلوق، إذ أن الأمر الطبيعي أن المرأة الحامل تشعر بأوان ولادتها فتحضِّر نفسها، وتخبر القوابل في أهلها وعشيرتها ليأتينها ويساعدنها في ولادتها، لا أن تخرج من بيتها إلى الطواف، وتستجير بالبيت وإلى الآن يسمَّى المستجار وتطلب من الله بعد بسط حديثها بإيمانها بأبيها إبراهيم ثم بحق الجنين والمولود الذي في بطنها فما أدراها به، ومَنْ أعلمها بعظيم مكانته ومنزلته وحقه عند الله تعالى؟ والغريب أنها دعت الله وكلها اطمئنان باستجابة الدُّعاء ولذا عندما انفتح الجدار دخلت فيه دون تردد وكأنها دُعيت بالدُّخول وكان هناك في استقبالها ما لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا أحد يعرف ما الذي جرى، ومَنْ الذي ساعدنها في ولادتها، ومن أين جاءت بأغراضها وحوائجها وطفلها ومن أين أكلت وشربت ولا سيما أنها بقيت داخل البيت ثلاث أو أربعة أيام بلياليها وهذا نأخذه منها فقط.
حيث قَالَتْ: إِنِّي فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ اَلنِّسَاءِ لِأَنَّ آسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ عَبَدَتِ اَللَّهَ سِرّاً فِي مَوْضِعٍ لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ إِلاَّ اِضْطِرَاراً وَأَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ هَزَّتِ اَلنَّخْلَةَ اَلْيَابِسَةَ بِيَدِهَا حَتَّى أَكَلَتْ مِنْهَا رُطَباً جَنِيًّا، وَإِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَ اَللَّهِ اَلْحَرَامَ فَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِ اَلْجَنَّةِ وَأَرْزَاقِهَا فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ هَتَفَ بِي هَاتِفٌ وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ سَمِيِّهِ عَلِيّاً فَهُوَ عَلِيٌّ وَاَللَّهُ اَلْعَلِيُّ اَلْأَعْلَى، يَقُولُ: اِشْتَقَقْتُ اِسْمَهُ مِنِ اِسْمِي، وَأَدَّبْتُهُ بِأَدَبِي، وَأَوْقَفْتُهُ عَلَى غَامِضِ عِلْمِي، وَهُوَ اَلَّذِي يَكْسِرُ اَلْأَصْنَامَ فِي بَيْتِي، وَهُوَ اَلَّذِي يُؤَذِّنُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي، وَيُقَدِّسُنِي، وَيُمَجِّدُنِي؛ فَطُوبَى لِمَنْ أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُ وَعَصَاهُ). (كشف الغمة: ج۱ ص6۰).
والأعجب الأغرب هو موقف أبو طالب، عليه السلام، وكل بني هاشم الذين حاولوا أن يفتحوا الباب فأُرتج وأُغلق عليهم فإنه لم يسعَ لعمل أي شيء بل انتظر خروجها من حيث دخلت وليس من الباب، فهل كان على علم بذلك كله؟ أو هل أخبره أحد وطمأنه بأن زوجته ووليدها بخير ولا يحتاجان لشيء من حوائج الدنيا كالطعام والشراب وكل ذلك يأتيهما من السماء لا من الأرض حتى أسلم وجهه ووكل أمره لله تعالى مطمئناً راضياً؟
- علي ربيب الرسول
كما أن من المعروف والمشهود في التاريخ الإسلامي أن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، قد تربَّى في بيت عمِّه أبي طالب، عليه السلام، وبرعاية أمِّه الثانية فاطمة بنت أسد، ولذا كان منتظراً مع عمِّه خارج الكعبة المشرفة ينتظرون خروج الوالدة والوليد كما أن كل مكة المكرمة ربما اجتمعت في ذلك اليوم لترى خروج تلك المرأة التي اختارها الله للولادة في بيته العتيق، وبالفعل أول ما انشقَّ الجدار وخرجت السيدة فاطمة منه تناول الولد من يدها والده العظيم، ثم ناوله ابن أخيه محمد بن عبد الله ليحمله إلى البيت حيث مضوا مطمئنين ومسرورين فرحين بهذا الموكب السماوي والجمع الرَّباني المهيب.
🔺 يؤكد ديننا الحنيف وحضارتنا الراقية على المسألة التربوية كمقدمة للهداية وصناعة الإنسان الإلهي بكل معنى الكلمة، بل وتأمرنا بمنهج القدوة والأسوة في ذلك
ومنذ ذلك الحين تكفَّل محمد بن عبد الله بهذا الآتي من بطن البيت على أكرم ضيافة، وأعظم كرامة، وبأبهى صورة، وأجمل طلَّة لمولود ولد في العالمين، ولذا قالت السيدة فاطمة موضِّحة ذلك: “فَوَلَدْتُ عَلِيّاً وَلِرَسُولِ اَللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثَلاَثُونَ سَنَةً فَأَحَبَّهُ رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، حُبّاً شَدِيداً وَقَالَ لَهَا: اِجْعَلِي مَهْدَهُ بِقُرْبِ فِرَاشِي، وَكَانَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَلِي أَكْثَرَ تَرْبِيَتِهِ وَكَانَ يُطَهِّرُ عَلِيّاً فِي وَقْتِ غُسْلِهِ وَيُوجِرُهُ اَللَّبَنَ عِنْدَ شُرْبِهِ وَيُحَرِّكُ مَهْدَهُ عِنْدَ نَوْمِهِ وَيُنَاغِيهِ فِي يَقْظَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى صَدْرِهِ وَرَقَبَتِهِ وَيَقُولُ: هَذَا أَخِي، وَوَلِيِّي، وَنَاصِرِي، وَصَفِيِّي، وَذُخْرِي، وَكَهْفِي، وَصَهْرِي، وَوَصِيِّي، وَزَوْجُ كَرِيمَتِي، وَأَمِينِي عَلَى وَصِيَّتِي، وَخَلِيفَتِي. وَكَانَ رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَحْمِلُهُ دَائِماً وَيَطُوفُ بِهِ جِبَالَ مَكَّةَ وَشِعَابَهَا وَأَوْدِيَتَهَا وَفِجَاجَهَا صَلَّى اَللَّهُ عَلَى اَلْحَامِلِ وَاَلْمَحْمُولِ”.
فعلي تربَّي في حِجر النبي وحضنه حيث تولَّى أمره كله منذ ولادته، ولذا كان معجزة الرسول الناطقة، مقترنة مع معجزة الله الصامتة، وإذا كان محمد، صلى الله عليه وآله، ربَّاه الله على أخلاقه وأدَّبه بآدابه فإنه نقل ذلك كله إلى أخيه أمير المؤمنين الإمام علي حيث قال: “أَنَا أَدِيبُ اَللَّهِ وَعَلِيٌّ أَدِيبِي”، وأمير المؤمنين يقول: (إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَدَّبَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَدَّبَنِي، وَأَنَا أُؤَدِّبُ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَأُوَرِّثُ اَلْأَدَبَ اَلْمُكَرَّمِينَ”. فالإمام علي، عليه السلام، بهذه الشخصية الفريدة التي لا ولن تتكرر في الإنسانية، ولن نجد لها نسخة مماثلة أو معادلة إلا في صنوه الرسول الأكرم، وهو ولي الله الأعظم، فهما أبوا هذه الأمة ومربياها إذا رامت هداها، وأن تسير على أخلاقها الراقية وتبني حضارتها الإنسانية المنشودة بأخلاقها المعهودة في كتاب الله تعالى.